Culture Magazine Thursday  16/05/2013 G Issue 406
فضاءات
الخميس 6 ,رجب 1434   العدد  406
 
مداخلات لغوية
لسان آدم(2)
أبو أوس إبراهيم الشمسان

 

يبدأ عبد الفتاح كيليطو حديثه عن (أقدم قصيدة في الدنيا) بسؤال «إذا كانت العربية عند بعض المؤلِّفين هي لسان الجنة، فماذا سيكون لسان الهبوط؟ هل(1) سيستمر آدم، بعد طرده من جنَّة عدْن، في التكلُّم بالعربية، أم سَيُعَبِّرُ بلسان آخر؟»، ونجده في محاولة الإجابة عن السؤال يعيد فضل معرفة الجواب إلى الكتابات التي أثيرت حول قصيدة نُسبت إلى آدم يرثي بها ابنه هابيل، «لأنّ آدم لم يكن أول نبيٍّ فحسب، وإنَّما كذلك أوَّل شاعر».

ويمضي المؤلف يحكي النزاع بين ابني آدم مستعينًا بما ورد في القرآن الكريم وكتب التاريخ والتفاسير وبما جاء في سفر التكوين، ويشير إلى الأوائل فالغراب يسنّ الدفن، وقابيل أوّل من سنّ القتل، وهابيل أول قتيل من بني آدم، وآدم أول من نظم قصيدة رثاء، ويدخلنا في مضمون القصيدة التي تحكي عن تبدل وخراب وبهذا تكون الأرض معلنة عن حدادها، ويُورد المؤلف القصيدة من مصادرها العربية فيذكر أنّ أول من ذكرها القرشي في جمهرة أشعار العرب.. ثم يذكر أن الطبري يذكر القصيدة بسلسلة إسناد يوصلها إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يغفل المؤلف أشعاراً أخرى كشعر إبليس الذي يرد به على آدم وما نسب إلى بعض الملائكة، ويورد أبيات نسبت لحواء تحثه على الرضا بالقدر.. وينتهي الموضوع من غير جواب حاسم عن السؤال الذي افتتح به الموضوع، لأن القضية لمّا تنته بعد فهي متصلة في الموضوع الذي يليه وهو (شاعرٌ أم نبيٌّ؟) حيث تطرح أسئلة عن صحة المرثية ولغتها وروايتها، ويبدأ بتكذيب ابن عباس من نسب الشعر إلى آدم ويقرن المؤلف ذلك بنفي قول الشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين اتهمه بعض قريش بذلك، وينتهي إلى أن القصيدة موضوعة مصنوعة، والحق أنّ هذا بيّن واضح ليس بحاجة إلى شواهد أو أدلة.. وينتقل المؤلف إلى لغة آدم فيذكر تأكيد الثعلبي أن لغة آدم بعد هبوطه من الجنة كانت السريانيّة ويورد ما ذكره السيوطي من قول ابن عباس أن آدم لغته في الجنة العربية ثم سلبها بعد عصيانه ثم ردت إليه لما تاب الله عليه، ويمضي المؤلف في إمكان كون المرثية نظمت بالسريانية أو قيلت نثراً بالسريانية ويعرج على رأي الجاحظ في صعوبة ترجمة الشعر، ولكنه يعود للمرثية ليرى أنها إن قيلت بالسريانية فلا ضير من نسبتها لنبي لأن السريانية وغيرها من اللغات غير العربية بعيدة عن الشعر، ويستنتج من هذا كونها قيلت نثرًا وظلت تنتقل من جيل إلى جيل حتى انتهت إلى يعرب ملك اليمن الذي يُقال إنه أول من تكلم بالعربية، وجملة ما يتردد في بقية الموضوع توحي بالغرابة وجو الأساطير وجانب غير معقول من مرويات التراث بأخبار غير مؤكدة، ولكن المؤلف لا ينتهي إلى قول فصل في شأن المرثية فيسلمنا إلى الموضوع الذي يليه (آدم أو النسيان) حيث يبسط الحديث عن أثر أدبي هو رسالة الغفران للمعري الذي ورد فيها لقاء ابن القارح في الجنة آدم عليه السلام ليسأله عن بيتين منسوبين إليه فينكر آدم معرفته بهما، ويتساءل المؤلف أيكون نسي شعره والإنسان من النسيان، ويختم المؤلف بقوله «طرد آدم من الجنة فنسي العربية وتكلم السريانية ولما عاد إلى الجنة نسي السريانية وتكلم العربية»، وهو بهذا يصل إلى أن آدم «إنسان لسان واحد»، وأما المرثية فكان آخر مقال لها حديث عن (مصير قصيدة).

ويعرض المؤلف لما سمّاه مسألة شكلية ذكرها القرشيّ وهي الإقواء؛ إذ روي البيت الثاني مكسور خلافًا لروي البيت الأول المضموم، وذكر أنها ظاهرة مقبولة في الشعر الجاهلي ليصل إلى أنها قد تكون دليلاً على قدم الأبيات المنسوبة إلى آدم؛ ولكن الرواية قد تصححه، جاء في تفسير البحر المحيط «وقول الزمخشري في الشعر: إنه ملحون، يشير فيه إلى البيت وهو الثاني:

تغير كل ذي لون وطعم

وقل بشاشة الوجه المليح

يرويه بشاشة الوجه المليحِ على الاقواء، ويروى بنصب بشاشة من غير تنوين، ورفع الوجه المليح. وليس بلحن، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة، ونصبه على التمييز، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام، والأمر الذي أميل إليه أنّ رواية الكسر متوقف فيها وأنّ الصحيح (المليحُ) بالضم لا الكسر؛ فلعل رواية الكسر استجابة لأحكام نحوية، أمّا الشاعر فلا يهمه الإعراب بل استقامة النغم والإنشاد، وليس في الرفع معاندة لقواعد النحو؛ إذ للنحويين مخرج آخر لا أدري لم أغفل أمره وهو تخريجه على قطع النعت، فيكون عندهم خبر مبتدأ محذوف (هو القبيح)، ثم عرض لرأي من قال بانتحالها بسبب رداءتها، ولكنه يرى أن هذا القول إن لم يكن متحيزًا فهو جزئي لم ينظر إليها في سياقها ومشهدها المسرحي، فهي مكملة للقصة المأساوية وأن الناظم المجهول قد صنع الأبيات التي كان لا بد أن يقولها آدم.. وإن من الجلي أنّ تقليب الأمر ومناقشته مهما تكن طريفة ممتعة صالحة لتزجية الوقت فإنها لا ترضي العقل، فإن قبلت فمن باب الفنون القولية، والمؤلف بلا جدال قارئ متمرس بالتراث؛ ولكنه عرض لمسائل معروفة نتائجها مقررة على الصحيح، فلا أحد يعرف على وجه اليقين لغة آدم وما نسب إليه من شعر منحول كما قرر القدماء وانتهى إلى تقريره المؤلف، غير أنه بيّن سرّ الانتحال وهو رغبة في إكمال مشهد المأساة الآدمية بوضع قصيدة تقيدها.

* * *

(*) مهداة إلى ابني أوس لما اقترح قراءة الكتاب وعرضه للقارئ.

(1) الصواب استعمال همزة الاستفهام فيقال أسيستمر؛ لأنه سؤال عن التصور لا التصديق.

الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7987 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة