Culture Magazine Thursday  16/05/2013 G Issue 406
فضاءات
الخميس 6 ,رجب 1434   العدد  406
 
الحنين إلى (حنين)
د. فهد بن علي العليان

 

لم يدر في ذهن كاتب هذه السطور أن يأتي اليوم الذي يكتب فيه هذه المقالة ويسطِّر هذه الحروف. بعد زواج شقيقتي الكبرى، رأيت على وجه (والدي) علامات الفرح والبهجة ثم ما لبث أن كتب بعض آهاته - ما زلت إلى هذا اليوم احتفظ بما كتبه بخط يده - لمغادرتها المنزل إلى بيت زوجها.

وها هي الأيام تعود مرةً أخرى، فحينما خطبت ابنتي (حنين) وتقدَّم لها (سعيد الحظ)! وقبل عقد القران بأيام، بدأت حروفي تنطلق، تريد أن تقول كل شيء عن (حنين). إنني اليوم أكتب الجمل والعبارات بحروف تمشي الهوينا، وتتكئ على عفو القارئ.

كانت البداية مع (رفيق الدرب وصديق التخصص والغربة) د. عبدالمحسن العقيلي - أستاذ المناهج بجامعة الملك سعود؛ حيث كتبت إليه بتاريخ 31-5-2012م رسالةً من قلب هاتفي بما نصه:

« أبا سالم: في شلالات نياجرا عام 1998م، - (فيديو)- كنت أنت تدفع بعربة تحمل (سالم) فلذة كبدك، وكانت صغيرتي (حنين) تجاورك تتبختر في مشيتها وتلعب بقدميها يميناً ويساراً. كنت (أنا) أرقبها وهي تلهو وتعبث! الآن يا سيدي تلك الطفلة آنذاك، والطالبة الجامعية هذه الأيام، تعبث بفؤادي مرة أخرى. باختصار: قرَّرت طفلتي مغادرة عشها الأول باختياري ورضاها، تريد أن تترك منزلي، وتذهب - بإذن الله وتوفيقه - إلى بيت صاحبها! كتبت إليك - دون سواك - لا شاكياً ولا باكياً، بل كتبت فرحاً مخبراً، وفي الوقت نفسه مذكِّراً أن أعمارنا لا تقف! يا الله: شعوري مضطرب: فرح ومبتهج! ولكن كيف أنسى عشرين عاماً قضتها طفلتي معي، كانت تسمعني وتجيب، تغضبني وترضيني! هذه الحروف قفزت من أضلاع قلبي، واختارتك أنت لترسو على شاطئ قلبك الطيِّب ليشاركني الدعوة بالتوفيق! أبا سالم: الأولاد صغاراً كانوا أم كباراً يعيش الإنسان معهم ومن أجلهم. تقف حروفي لأقف داعياً لأبنائي وأبنائك بالتوفيق والسداد والصلاح! يا رب».

ولم تكد تمضي أيام حتى يأتي موعد مناقشة رسالة ماجستير لإحدى الدارسات في الجامعة، فذهبت إلى مكتبتي عصر الجمعة استعداداً للقراءة وطرح بعض الملحوظات، وإذا بالذهن يشرد، لأكتب رسالة إلى الصديق مرةً أخرى: « أبا سالم: بين يدي رسالة ماجستير لمناقشتها الاثنين القادم 14 رجب 1433 هـ - بإذن الله -. أقرأ في فصولها، فاختفت الحروف وغابت الأشكال والفهارس، وارتسمت أمامي صورة طفلتي تؤشر بيديها مودعة وفي يديها مفتاح دارها. وصلت لخاتمة الرسالة، أبحث عن نتائج الدراسة، وجدت - فقط- بخط عريض مكتوب (حنين). عدت بسرعة للصفحة الأولى لأستدرك الخطأ وجدت التاريخ 8 ذو الحجة 1412هـ. تساءلت أين رسالة الماجستير؟ قلبت الأوراق كلها لعلني أجد المقدمة والتمهيد وأسئلة الدراسة والدراسات السابقة. رباه: ماذا أقول وقت المناقشة؟! سأكتفي بعبارة واحدة: أحتاج الى الحنين، فارفقوا بي، يا رب».

بعد ذلك بأيام وقبل عقد القران بليلة واحدة، تلزمني ظروف العمل للتواجد في مدينة بريدة في اجتماع مع مجلس إحدى الجمعيات النسائية، ويدور وقتها الحديث عن تدريب الفتيات والمقبلات على الزواج، فإذا بالحديث ينساق تلقائياً لتهنئة إحدى الزميلات بابنتها، ومن ثم الحديث عن زواج ابنتي، وبعد ذلك قراءة الرسالة الأولى للصديق د. عبدالمحسن على الحاضرات. وهناك كانت المفاجأة، إذ تحدثت ونطقت دموع إحدى الزميلات. انتهى الاجتماع وعدت للفندق ألملم أشيائي، ثم كتبت:

«وسن تذرف دمعها، ونوال تتجلَّد، وتغريد تحبس الكلمات، ومنال تلتزم الصمت. لماذا قرأت الرسالة عليهن؟ وهل حضرت (حنين) الاجتماع؟ يا الله: أرجو لطفك، فقد قفزت كلماتي، وبكى قلبي فرحاً وشوقاً! لك الله يا وسن عندما فاضت دمعاتك! ألست أماً تحملين فؤاداً يضم ابناً هو بؤرة القلب! يا سيّدتي: - لا والله- لن تلومك (نوال) فقد جرّبت مغادرة حبة فؤادها، ولن أستغرب، فأنا أعيش اللحظة وأستعد للحظات! يا وسن: لو لم أخش أن تتساقط دمعات صويحباتك، لقلت لك ولهن قصيدة (الحنين) إلى (حنين) وما أظن شطراً منها إلا يقلب اجتماعنا شجى دون أذى! لك الله يا أم غسان حين عزمتِ بقوة لتوقفي دمعة المشتاق (وسن)، وتخففي من لوعة الوالد المضطرب. كنت أظن أن الرياض فقط تزيدني شوقاً إلى (حنين)، فإذا بريدة مسقط الرأس تجرجر آهاتي وتنطق ما في داخل فؤادي! كنت أقول: متى ينتهي اجتماعنا، لكي لا تفر دمعة تغرق ملفاتي مع (حرفة)، فقد تحولت كل الكلمات أمامي إلى (حنين)! يا للدنيا التي تطوي بنا الأيام وتنقضي معها الساعات لتنتهي الأعمار! حفط الله لنا الأولاد والبنات، وحقق أمنياتنا فيهم جميعاً! وتحيَّة كبيرة، لك أيتها (الكبيرة) أم غسان من قلب بريدة، وهنا يقف حرفي».

لم يهدأ خاطر الأب، إنه يريد إعلان الفرحة بلغة المضطرب عاطفياً، وحينها قرَّر أن يكتب إلى صديقه الصدوق د. عبدالله الموسى - مدير الجامعة الإلكترونية « أخي أبو عبدالعز يز:? أريد أن أقول لك: إنك تمثِّل لي أنموذجاً أحاول أن أسير على دربه، أقدرك وأحترمك مهما تباعدت المسافات? مساء البارحة كان يوماً مختلفاً في حياتي، حيث مِلْكَة ابنتي (حنين) التي قرَّرت مغادرة منزلي..! دعواتك».

وتمر - بعد ذلك- الليالي والأيام، وأجدني أعود إلى (حنين) الصغيرة كل وقت وحين، ففي أوراقي أحتفظ بشهادتها - السنة الأولى ابتدائي- في المدرسة السعودية في ولاية أوهايو - الولايات المتحدة الأمريكية. قلبت الشهادة وطالعت الدرجات، ثم قرأت بعناية ما كتبه الزميل القدير د. عبدالإله العرفج على ظهر الشهادة، أخذت الجوال وكتبت إليه: «أبا حسان: على ظهر كشف درجات صغيرتي (حنين) في المدرسة السعودية في أثينز، كتبت أنت تهنئة بالتفوق والنجاح على لسان معلمتها رفيقة دربك (أم حسان)، أرجع من وقت لآخر، وأقرأ حروفك، وأتأمل في سرعة الأيام وجريانها. أبناؤنا الصغار (في ذلك الزمن) يقلبون أوراقهم الجامعية، وينطلقون في فضاء دنياهم. يا الله: والأسعد والأقسى حينما يقرّرون مغادرة عشهم ومنزلهم. أبا حسان: باختصار، قرَّرت تلميذة أم حسان (حنين) مغادرة المنزل لتلتحق ببيت صاحبها قريباً إن شاء الله، كم هي قاسية الأيام - رغم سعادتي - حين تفصلنا عن طيورنا فلذات أكبادنا! أكتب إليك، وأعرف أنك جربت قبلي، ولكنه (قلبي) يملي حروفه إليك! أبا حسان: ما بال هذه الدنيا تتقلَّب بنا ونحن غافلون؟! أبا حسان: أكتب إليك، فدعواتك بالتوفيق أحتاجها وتحتاجها صغيرتي. أنت جربت، وأنا أتذوّق السعادة مع دمعة تفر من حيث لا أشعر. يقف حرفي، وأرجو ألا تقف دعواتك». أبو علي - الرياض - شعبان 1433 هـ»

وبعد انتهاء الزواج، ومراسيم الزفاف، عدت إلى بيتي ونظرت إلى الغرفة الخالية من كل شيئ إلا خيال صغيرتي. وقفت أمام الباب ونظرت ثم نظرت، ثم رددت مع الشاعر قوله:

أحببت طيفكِ بالذكرى يناديني

يا عذبة الروح يا عطر الأفانينِ

أترحلين؟ فمن للشوق يسكبه

لحناً شجياً بأحلى الصوت يشجيني

أترحلين؟ فمن للقلب يزرعه

ورداً بورد ونسريناً بنسرينِ؟

أترحلين؟ فمن للبيت يعمره

من الرفيف حناناً وارف اللينِ

(حنيني) يا زهرة الدنيا وبهجتها

هنا ذكرتكِ.. والأشياء تبكيني

هنا سريرك هذي الكتب ما برحت

تدني الحنين إلى الذكرى وتدنيني

ما زلتُ رغم أغاني العرس في خلدي

أراك طفلتيَ الصغرى تناغيني

نعم تزوجتِ لكن أنت طفلتنا

تلك التي تملأ الدنيا بتلوينِ

وبعد ذلك، تستمر الليالي والأيام، وتدور عقارب الزمن، وتمضي ستة أشهر من زفاف (حنين)، ويقرّر الأب البوح بما كتبته دموعه وأملاه قلبه. وكل ما يأمله ويرجوه التوفيق لكل طائرين يخفق قلباهما بالمحبة، ويرجو - كذلك- العفو من كل قارئ لم يتذوَّق حروفه؛ لكونها لا تعنيه من بعيد ولا قريب، أو لكونها حكايةً خاصةً وحالة طارئة!

أسعد الله عصافيرنا حيث تحلِّق!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة