Culture Magazine Thursday  16/05/2013 G Issue 406
فضاءات
الخميس 6 ,رجب 1434   العدد  406
 
مدينة القاتل العبقري
سيمون نصار

 

(1)

على الباب الجانبي الذي يتوسط الجدار الشاهق لكاتدرائية نوتردام دو باي في (غراس) التي تعني الدهون. تفيد اللوحة المعلقة، أن العمل في بناء هذه الكاتدرائية بدأ في 1244، ثم في العام 1687 وسع القسم الداخلي منها، وهو ما يعرف بالقلب الذي يرتكز على الأعمدة الأساسية. في العام 1714 قام أحد بارونات المنطقة «لم يذكر اسمه» بتحسينها على نفقته الخاصة، ما عنى أعمال الصباغة وصقل الحجارة الناتئة وترتيب الساحة المقابلة التي تعرف حتى اليوم بساحة الكاتدرائية. ثم، مباشرة في العام 1738 أعيدت هندستها لتأخذ منذ ذلك التاريخ الشكل الهندسي القوطي الذي كان رائجاً في هندسة ذلك الزمان، حيث كانت لا تزال محافظة على نمط الهندسة الروماني – التوسكاني الذي شيدت على أساسه. في العام 1792 مع الثورة الفرنسية، أضرمت النيران فيها وأكل اللهب مخازن القمح في الأسفل.

لا تذكر اللوحة عدد الذين ماتوا في الحريق، ولا حتى الكتاب الأنيق الذي اشتريته ليروي لي تاريخ المدينة. يقولون في الكتاب أن رهابنة وآباء حرقوا وهم يحاولون ثني النيران عن أكل الأخضر واليابس، لكنهم بلا عدد بلا أسماء بلا ملامح. قبالة المدخل الرئيسي للكاتدرائية، حيث الباب الرئيسي الذي نصل إليه بعد صعود عدة درجات، ويقع أسفله مدخل المخازن، التي تحولت مع الوقت، إلى صالة لعرض الفنون التشكيلية وإقامة المناسبات. وضعت البلدية لوحة تذكارية لأنطوان غودو 1605 – 1672.

الذي كان عضواً في الأكاديمية الفرنسية ووضع غير كتاب عن العطور وطريقة استخراجها من الزهور.

تذكر المدينة غودو الذي كان كاتباً وفارساً ونبيلاً ولا تذكر القتلى الذين كانوا يتسلطون على سكان المدينة والمدن المجاورة والقرى ويسخرونهم في الحقول والمزارع. القاتل الظالم بلا اسم لا يذكره التاريخ، يتركه مهملاً ولو كان جثة متفحمة. مسار التاريخ أقوى من الاستبداد، حكم التاريخ يعادل استبداداً آخر ينزل عقابه بالاستبداد السابق. الذين لا يذكرهم التاريخ، ليسوا فقط عمال الحقول وأصحاب المهن البسيطة. هؤلاء للتاريخ أسبابه لكي لا يذكرهم حيث ذكر ما تركوه من عادات وتقاليد وألبسة ومأكولات. الباييلا، الأكلة الإسبانية - الأندلسية الشهيرة خلدت مبتكرها الأول الذي كان جائعاً وفقيراً ومهملاً. أكلة واحدة بقيت تدور على الموائد لتنصف فقراء إسبانيا على مر العصور. لا شيء يحفر أمكنته الخاصة في ذاكرة التاريخ أكثر من الفقراء والبسطاء.

في 1920 وضعت الكاتدرائية على لائحة المباني التاريخية الفرنسية. في 2006 بينما كانت الحرب تأكل أبنية لبنان وتهدم بيوتها حصلت الكاتدرائية على جائزة أجمل مبنى تاريخي في فرنسا. وفي العام الذي تلاه حصلت على جائزة اليونسكو للمباني التاريخية النادرة في العالم. من هم الرهبان والآباء الذين قضوا بين جدرانها، لا أحد يعرف. ما نعرفه أنهم ذهبوا وبقيت الجدران تحصد الجوائز.

( 2 )

ثمة روائح نتنة هنا. نعم، في الممر الضيق الذي ندخله بعد الخروج من ساحة إتيان روستان، الروائح ليست على ما كانت عند الاستقبال أو حتى في وسط الساحة التي تتناثر فيها الورود ويتوسطها رجل وامرأة يصفان الكراسي بالترتيب قبل بدء المسرحية، التي ألفتها المرأة. التي تؤلف كتباً ومسرحيات للأطفال. الممر الضيق الذي يقف على مدخله تماماً جدار منزل ميدييفال الذي بني في نهاية القرون الوسطى. بناه السيد ميدييفال أحد تجار أكبر تجار الورود في ذلك الوقت، ويمتاز هندسياً، بأنه البيت الوحيد الباقي من ذلك التاريخ بدرج مستقيم غير لولبي. غير أن السيد ميدييفال بعد عام على تشييده هذا الصرح الهندسي قفز من الأعلى وسقط هنا، في بداية الزقاق، قبالة مدخل البيت. قالت لي سيدة عجوز تسكن في الزقاق ذاته، إن الرائحة النتنة لم تغادر المكان منذ انتحار السيد صاحب البيت وأن هذه الحكاية يتناقلها سكان الزقاق منذ قرون. السيدة التي رفضت أن أصورها، لأنها ليست مزهرية كما قالت لي. قالت إنها سمعت الحكاية من أمها التي ولدت في منتصف القرن التاسع عشر في المكان ذاته لأب يعمل في حقول الورد. كانت أمها متخصصة بزراعة الياسمين وروت لها أن السيد الذي انتحر ترك هذه الرائحة.

لا أحد يدري، من الذي بدأ بنشر الحكاية. على الأغلب العاملات في الحقول أو ربات المنازل، اخترعوا قصة للتسلية وتزجية الوقت. في ذلك الزمان كانت الحكايات الشيء الوحيد الذي يزهق الوقت. قفز السيد ميدييفال من الأعلى اصطدم بالأرض، تنفس جسده ثم انتفض قليلاً، بعدها سال دمه. ومن هنا، بدأت الحكاية تغزل يوما بعد يوم حتى وصلت إلي دون أن تنتبه السيدة التي روت لي بجدية كانت بادية على وجهها وحركات يديها، أن الزاوية اليمنى للزقاق مظلمة ولا يصلها شعاع الشمس وأن المبنى من هذه الجهة رطبٌ وأن ما نشمه ليس سوى رائحة الرطوبة الأبدية التي ستبقى ما بقي البناء وما بقيت المدينة.

( 3 )

لا تختلف المسارب التي تتبعنا فيها قلم باتريك زوسكيند في روايته الشهيرة (العطر – قصة قاتل) عن تلك المسارب التي تفضي إلى بيوتات غراس ومتاحفها وساحاتها المزدهرة بالمقاهي والمطاعم والسياح. غراس، المدينة الصغيرة المطلة على البحر، الممتلئة بعبق الزهور ورائح العطور المستخلصة منها. ليست مدينة عادية، على ما جرت المدن والحواضر. هنا، الحجارة تزفرُ عطورها على المارة الذين لا هم لهم، إن كانوا سياحاً سوى متابعة الشميم حتى إغلاق مسارب الرئتين وانسداد الأنف. أما إن كانوا من السكان فلا رائحة لهم، انغمست شخصياتهم وروائحهم بشخصية المدينة وروائحها. ذابوا رويداً رويداً فيما يشبه قوالب الشمع المعطر.

متاحفٌ، ثم متاحفٌ، ثم متاحفٌ يتبعها حدائقٌ وحدائقٌ تتوسط الساحات التي بدورها تمثل عقدة الربط بين الأزقة الضيقة التي لا أمل في آخرها بلقاء شيء. ثم يتبين الجمال في كل مكان تطؤه الأقدام. المدن التي هكذا، تعذبُ أهلها. تحولهم إلى هياكل عظمية في فاترينات للعرض. لا تمكنهم من العيش بروِّية وسكينة. حين يدخل كل يوم ساكن إلى مدينتك يتجول في أزقتها ومساربها وساحاتها ويفترش حدائقها، لا يصبح المشهد مجرد فرجة عادية، ذلك يغير السلوك. عليك دوماً أن تظهر السلوك الحسن والمضياف، كما عليك التخلي عن مزاجيتك. يجب أن تكون رجلاً شهماً ونظيفاً ومرتباً وإلا تفقد المدينة رونقها والصورة التي عرفت عنها. المدن السياحية، خصوصاً إن كانت مدناً صغيرة تعذب سكانها. أتخيل رجلاً من غراس بوده أن يصرخ بالمارة لكنه لا يقدر، سطوة المدينة تمنعه. بوده أن يشرب قهوته وهو يجلس أمام بيته القروسطي مفترشاً الزقاق، لكن قوة تمنعه، قوة لا يراها لا يسمعها لا يشمها تمنعه.

( 4 )

بحثت طويلاً عن خطوات جان باتيست غرونوي. تلمست الجدران المصبوغة والمسارب والأزقة الحجرية الضيقة. لم أجده لكني شممت رائحته. ذلك الفتى الباريسي اللقيط الذي ولد تحت عربة بيع السمك على رصيف النهر في جزيرة سانت لويس. بقي حبيس قارورة العطر لحين جاء كاتب ألماني فتح القارورة ونفثت روائحها في كل العالم.

غرونوي الذي خرج من الموت حين كان رضيعاً، وملك أنفاً، لا يتكرر في أي زمان. مات بعد أن استخرج عطر الإنسان. خلاصته، رحيقه الداخلي الذي يبقى منتشراً حتى الأزل. غير أنه مات. وفي الموت يرتاح القاتل والقتيل.

( 5 )

كانت غراس لتكون مدينة عظيمة بكل معنى الكلمة لو توفر فيها ماكدونالد للوجبات السريعة.

باريس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة