Saturday 16/11/2013 Issue 417 السبت 12 ,محرم 1435 العدد
16/11/2013

حديث في «المنطق والخطر التوريقي»

الاختصار لا يعني دومًا الإيجاز.. كما لا يعني الاقتضاب بطبيعة الحال إيجازًا، والحكمة كما البلاغة ليست صانعة للفكر إنما مُجمِدة للتفكير أو هكذا أعتقد.

قد نختلف في الآتي أو نتفق فلا أحد منّا يملك الصواب أو الخطأ فنحن شركاء في التصحيح والتوجيه.

أيهما مُؤسِس المعرفة ونهضتها الاختصار أو التحليل؟ وأيهما من ظواهر التخلف الفكري الاختصار أو التحليل؟

ويظل للمتفِق كما للمختلِف له منطقه الداعم لِم يقرّره ويحرّره حتَّى حين؛ منطق ينبني وفق إستراتيجية خاصة للاستقراء ولطبيعة الفاعلية، وتأثيرها بلا شكَّ في تشكيل إستراتيجية الاستقراء تلك.

فقراراتنا ليست دومًا نهائية، بل يجب ألا تكون نهاية فخطوط الرجعة دومًا متحرِّكة؛ لأن التغيير في الفكر هو الأصل لا الثبات.

لذلك فلا نهائي ولا مكتمل لطبيعة العقل الفكري، ولا حتمي توقيفي لأدواته وتقنياته، وذلكم ليس فيه إنكار لتأثير الاقتضائية لكن الإنكار قائم على حدود تحول التأثير إلى سلطة داعمة لأحادية التوجُّه والتقنية.

إنه حديث عن اغتيال المنطق في زمن سلطة التغريدة والتوريقة. فإذا كانت «التغريدة» سوّغت «التوريقة»، وأن التوريقة كما التغريدة هي مؤسِسة البنية الثقافية للمستقبل.

وأن الحكمة القديمة تعيد إحياء نفسها «خير الكلام ما قلّ ودلّ» هي اليوم صانعة الثقافة كما يروّج لها أنصار التحول من المنطق إلى التغريدة والتوريقة.

ويظل السؤال ها هنا هل «التغريدة والتوريقة» هما من مشتقات «خير الكلام ما قلّ ودلّ» وعبارة النفري الشهيرة «كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؟

إن الحكمة لا تصنع «نهضة الأمم الفكرية» ولو كانت تستطيع ذلك لصنعت نهضة فكرية عظيمة عند العرب «قبل الإسلام» فهم أكثر الأمم كثرة في «مدونة الحِكم».

لكن المنطق هو الذي يصنع «النهضة الفكرية للأمم والمجتمعات»، وحُرّم المنطق في ظلِّ الإسلام من قِبل بعض رجال الدين المتطرفين بدعوى أنّه «تفكيك في الثوابت» ومناقشة في أصولها.

إن حكمة «خير الكلام ما قلّ ودلّ» استعمرت العقل العربي التأمَّلي بدعوى مراعاة شروط البلاغة وأضرت بمصلحة المنهج التفكيكي لمصلحة «تلخيص المشروح» الذي يدخل باب الإيجاز والبلاغة، فما كان من ذلك المدخل سوى أنّه أورثنا ظلامًا فوق ظلام وتخلفًا فوق تخلف، واستعمر من يُجيد التلخيص عقل من يُجيد التأمَّل والتفكيك، فهل التاريخ هاهنا يُعيد نفسه؟

إن المفكرين وأصحاب المنطق هم من صنعوا الحضارة الفكرية للمجتمعات لا الحكماء والمُلخصين.

إن استبدال منهج المنطق اليوم بتقنية التغريدة والتوريقة لصناعة العقل الثقافي للمجتمع هو كما أعتقد عودة «للخلف» كما فيه خطر على مستقبل العقل الثقافي.

كما تظل لمن يُناقش حيثياتها رؤية لها ما لها وعليها ما عليها، رؤية تدفعنا إلى تحليل قيمة كفاية الكتابة واللغة والتفكير للفاعل الاجتماعي ووظائفها.

وهل كُلَّما تطوّر تفكير الإنسان تقلَّصت حاجته للتحليل أم اتسعت حاجته للتحليل؟ أو أن المسألة ها هنا لا تتعلّق «بثيمة التطوّر والتطوير الفكريين» بقدر ما تتعلّق «بالتطوّر النوعي لو سائل التعبير»؟

رؤية تُعيدنا إلى الشكل البدائي للكلام والمستوى الأدنى من الكتابة، عندما كانت تُختزل الدلالة في شكل علامة أو صورة.

إن تحوَّل الدلالة العبارية إلى علامة أو شكل أو صورة ليس تطويرًا في قيمة الدلالة كما أعتقد. إنما تقنية توظيفية لتأكيد الدلالة التعبيرية.

وبذلك فالعلامة أو الشكل أو الصورة «وحدّت الدلالة» وهو توحيد أخرج المعنى من «المستوى التعبيري» إلى «المستوى الأدائي أو التوظيفي» أو ما اسميه «علّمنة الدلالة اللغوية».

و»التغريدة» كما «التوريقة» يُحسبان وفق «علمنّة الدلالة اللغوية» يُحسبان وفق طبيعة المقتضى المُتاح واللازم، وضرورة الاقتضاء مرتبطة بخاصية تحقق التجانس المضبوط بشرطي المقام والتفاعل.

لكن أن يتحوَّلاً إلى «صانعي للفكر أو العقل الثقافي» للمجتمع ويؤسسا من خلاله نهضة فكرية فالأمر يختلف؛ لأن التفاصيل هي التي تصنع الفكر.

والتفاصيل هي مجموع القواعد التي تنظم «السلم المنطقي» مثل عقلانية الخلفيات التي يستند عليها التحليل الممثل للمنهج المنطقي وموضوعية النتائج التي يتوصل إليها التحليل الممثل للمنهج المنطقي.

يُبنى الفكر الإنساني على عقلانية المنطق، هل هذا يعني أن هناك منطقًا لا عقلانياً، هذا ما أعتقده أن هناك منطقًا لا عقلانيًا، والأمر ها هنا في حصول حكم اللا عقلانية للمنطق مرتبط غالبًا بالخلفيات الدينيَّة والتاريخية والعلمانية لفاعل المنطق ومحلِله وموضوعية نتائجه.

وبذلك يمكننا القول بأن المنطق يفقد عقلانيته وفق إيماننا بمقرَّرات تلك الخلفيات أو إنكارنا لمضموناتها، ومن هنا ينشأ صراع الأديان والحضارات مثلاً.

وهناك المنطق اللا عقلاني المبني على إلغاء خصائص « البشرية» كإلغاء ميل البشر نحو الشر وحب التملك أو التَّميز والاستقلال عن الآخر، وهو ما يسمى في كتب الفلسفة الفكرية «بالطوباوية».

إن حصول «الكمال» للبشرية لا يُمكن أن يتحقق؛ لأن «الرغبة» تشكّل نصف الإِنسان، الرغبة هي مصدر الخطايا. وحتى الأنبياء النماذج الأقرب للكمال البشري خصهم الله «بالعصمة» ليقتربوا من «نموذج الكمال» لا ليمثِّلونه. وهذه الفكرة يقدمها لنا النص المقدس من خلال القرآن الكريم من خلال قصة «النَّبيّ يونس» عليه السَّلام الذي أصابه اليأس من قومه فهجرهم، فُأغرق في اليم في بطن حوت، وقصة «النَّبيّ موسى» الذي لم يطق صبرًا على الخضر لتعلّم الحكمة، وقصة «النَّبيّ نوح» الذي لم يقاوم غريزة أبوته فشفع لابنه الكافر عند الله سبحانه وتعالى.

إن القرآن يعلَّمنا أن ليس هناك بشرٌ يصل إلى «مرحلة الكامل النهائي» وإن الاقتراب من تلك المرحلة لا يتم إلا عبر «منحة إلهية» تٌقدم من خلال «خاصية العصِمة».

أعود إلى فكرة اللا عقلانية فهل هذا الحكم «يُفسد المنطق»؟ والإفساد ها هنا يتعلّق بإمكانية تحقيق نتائج التحليل المنطقي، فكلّما ابتعدت نتائج التحليل المنطقي عن الموضوعية أيّ غير قابلة للتطبيق أو داعمة لتمييز أو خالية من قاعدة بيانات توفر رؤية استباقية لصناعة الخطط التنموية للفرد والمجتمع دخلت في حكم «الفاسد». ولكن هناك نقطة يجب الانتباه إليها وهي أن إطلاق «الحكم بفساد حاصل منطق» قد يكون مسوّغه بتجاوز «ذلك الحاصل» فهم واستيعاب «الدورة الحياتية» القائمة بحيث يُصبح «صالحًا» في دورة حياتية لاحقة وهذا النوع من حواصل المنطق تدخل في «باب الفكر العلمي» غالبًا.

أما كيف يتناسب حاصل المنطق مع الدورة الحياتية القائمة فالأمر يتعلّق بالكليات.

فهناك كليات رئيسة بمتضاداتها هي التي يتحرك البشر في فلكها وهي الخير مقابل الشر والحرية مقابل العبودية والحب مقابل الكره والأمن مقابل الخوف والكفاية مقابل الاحتياج. وتلك الكليات هي التي يُؤسس المنطق في ضوئها. أي أن المنطق يؤسس قواعده الفكرية وفق الكليات التي تتحكم في حياة البشر.

وذلك التحكم يمكن أن يكون من خلال المؤثِّر أو الدافع أو الحاصل؛ ولا يُفهم من العبارة السابقة أن المنطق يقتصر على تحليل «الوارد الواقعي وتأثيرات الاستيراد الحضاري» أو ما كائن، أو أنّه علم تشريح «واقع الإمكانات التطبيقية».

بل يشمل إضافة إلى ذلك صناعة التصورات الافتراضية بما فيها من «التنبؤات النهضوية أو التنبيهات والتحذيرات بحصول تخلف ورجعية.

وبذلك فإنَّ علم المنطق التحليلي يتصف بامتلاكه لرؤية استباقية كما يتصف بقدرته على توفير قاعدة بيانات يمكن الاستفادة منها بل يجب الاستفادة منها في وضع الخطط التنموية للفرد والمجتمع للدورة الحياتية المتفاعلة، وهو بذلك يُؤسس البنية الأولية للعقل الثقافي للمجتمع.

ويقابل التحليل المنطقي الكتابة الوظيفية التي تبرز اليوم من خلال التغريدة والتوريقة وقبلهما «القصة القصيرة جدًا».

إن التقريرية البحتة والتلخيص المقتضب المقرر للنهاية الكلية المطروحة للنقاش والمائلة نحو الأحادية هي اليوم المعايير التي يتأسس في ضوئها «التفكير التغريديّ التوريقي».

وتلك المعايير فيها الكثير من الخطر على «سلامة العقل الثقافي» للمجتمع؛ لأنّها تضر «بثقافة الاختلاف» وتقرّب المجتمع من «حافة الخلاف الثقافي» وهذا بدوره له أثره على مستوى التعايش المشترك للمختلفين من خلال اتساع رقعة التطرف.

فقد أثبت التفكير التغريديّ والتوريقي أن ليس دائمًا الشيطان يختبئ في التفاصيل إنما يختبئ في «أحادية التقرير» التي تدفع بالمرء نحو «التطرف والعنف اللغوي والفكري والسلوكي».

ليس من الصحيح أو على الأقل هذا ما أعتقده أن «التفكير التغريدي أو التوريقي» سيكون معينًا أو إثرائيًا للجيل القادم على تعلّم الحكمة وفصل الخطاب والإيمان بحريَّة الرأي والاختلاف؛ لأنه سيعلمهم من خلال «140» كلمة تغريدية أو توريقية أن «يهاجم من يختلف معه» بدلاً من أن يناقشه أو يُحلل وجهة نظره، لأن «الهجوم يتصف بالتكثيف والاختصار» كما أن لغة الشتم في متناول الجميع ولا تحتاج إلى جهد المحايدة والموضوعية، في حين التحليل يعتمد على سعة الرأي وأصول التفنيد أو الترجيح أو الإثبات، ولغة النقاش وجهد المحايدة والموضوعية وتلكم قواعد لا يُمكن تحقيقها في ضوء «140» كلمة، وقد يقول مؤيِّد لتقنية التغريدة أو التوريقة لديك «140» كلمة ثانية وثالثة وعاشرة، ووفق هذا «التخريج»فأنت تجاوزت ضابط «140» كلمة ودخلت فصل التحليل فالتجزئة تُلغي «خاصية النوع».

ونستطيع أن ندلل على هذه النقطة بما يكتبه الغذامي في «الصحوة» فقد خرج عبر تجزئته من باب»التوريق» إلى «باب التحليل» فهو يقدم مقالة تحليلية مطولة أو دراسة تحليلية يقسمها إلى «حلقات أو أجزاء».

وبذلك لم يستطع التقيد بما صرّح به في أولى توريقاته فخرج دون قصد على ما سنّ لنفسه من التزام باب»التوريق» ولم يقاوم «شغف التحليل».

إن التغريدة أو التوريقة من خصائصها أن تلتزم بنظام إحصائي من الكلمات «140» كلمة وذلك ليس أهم خصائصها إنما أهم خصائصها أحادية الفكرة وأحادية الرأي وأحادية الحاصل وأحادية اللغة.

وبذلك يُخالف الغذامي نظام التوريقة بالصحوة.

لقد دعمّ التفكير «التغريدي» كما سيدعم التفكير «التوريقي» أن كُتب له «الحياة» والحياة هنا «ليس هو الوجود في ذات الوجود» بل «التأثير في نهضة الفرد والمجتمع».

أقول: لقد دعمّ التفكير «التغريدي» كما سيدعم التفكير «التوريقي» للفاعل القاعدة «البوشيّة» «أن تكون معي أو ضدي» التي أسست «الفكر القطبيّ» وأبناء «الخير» مقابل «أبناء الشر» ومحور الشر ومحور الخير و»أبناء الظلام» مقابل «أبناء النور»، لتأتي التغريدة كما التوريقة مُفعِلة لمبدأ أن لم تكن معي فأنت ضديّ وبالتالي فهما مُؤسِستان لفكر التطرف والخلاف.

أن «ترفض شيئًا» وتناقش «إمكانية قبوله»، أو أن «تقبل شيئًا» وتناقش «إمكانية رفضه» هذا هو المنطق، وهو ما يتنافى مع خصائص تقنية التوريقة وقبلها التغريدة.

- جـدة **** sehama71@gmail.com