Saturday 16/11/2013 Issue 417 السبت 12 ,محرم 1435 العدد
16/11/2013

حُكَّامُ العقيدة..؟!

لا أتابع مباريات كرة القدم، وأجهل الكثير عن أنظمتها وقوانينها وأحكامها، ولكنني أعرف أن بعد انتهاء كل مباراة قوية يتحول معظم الجماهير إلى حكّام صارمين وعنيدين وحاسمين في إصدار أحكامهم على اللاعبين، ضاربين عرض الحائط بأحكام الحَكَم الرسمي للمباراة، معتبرين أنه لا يفقه شيئاً في كرة القدم!

تلك لعبة، وفي اللعب يجوز أن تكون الأحكام لعباً، أما إصدار الأحكام المجانية في (العقيدة)، وبخاصة عقائد الشخصيات الكبرى التي قدّمت إضافات بالغة الأهمية ثقافياً وعلمياً وأدبياً؛ وبالأخص من بعد وفاتها.. فيا للهول!

في اليوم الأخير من الشهر الماضي (31 أكتوبر) كانت الذكرى الرابعة لوفاة العالم والمفكر والأديب المبدع الدكتور مصطفى محمود – رحمة الله عليه – وقد تابعتُ بصمتٍ كثيراً من النقاشات التي تداولها بعضُ الشباب من الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، التي لا أملك في أيٍّ منها أيَّ حساب؛ وقد أغاظني ذلك التقمُّص الذي يعيش فيه أكثرهم. فتجده يستنكر عليَّ إعدادي وتقديمي للملف الخاص الذي صدر عن الجزيرة الثقافية تكريماً للدكتور مصطفى محمود حين كان فاقداً للذاكرة، وشارك فيه بكلمات رائعة عن مصطفى محمود ثلاثون من مختلف الأطياف الثقافية والبلدان العربية؛ وكلّهم لم يعجبوا بعض الشباب من الأدباء المتقمّصين لأدوار لا يصحّ وجودها أصلاً (!) فليس أسهل عندهم من إطلاق الأحكام على مصطفى محمود بأنه (لم يكن على عقيدة إسلامية) وبعضهم يتكرّم قليلاً فيقول (عقيدته ظاهرها الإسلام وباطنها الإلحاد!) فلا حول ولا قوة إلا بالله، هل يدرك هؤلاء الجاهلون أيَّ جرمٍ يرتكبون؟

الكتب التي تركها الراحل مصطفى محمود (أكثر من 80 كتاباً) في الفكر والعلم والثقافة والأدب، والحلقات التلفزيونية من برنامجه الشهير العلم والإيمان (أكثر من 400 حلقة) أجزم أن كلّ من يتهمونه في عقيدته الآن لم يقرأوا ويطالعوا عشرها – ناهيك عن نصفها لا كلها! – ومع هذا يسمحون لأنفسهم بالتطاول والتكفير؟ نعم هو التكفير، فإطلاق الأحكام بإخراج إنسان من عقيدته الإسلامية هو تكفير له، فكيف إذا كان ذلك الإنسان هو أحد القلائل في عالمنا الإسلاميّ تفرّداً علمياً وثقافياً، وقد استطاع أن يختار دينه وعقيدته بحرية تامة لم يجرؤ على مثلها أحدٌ، فمعروفٌ عنه تخليه عن كل انتماء متوارث ومفروض، في مرحلة من مراحل رحلته مع العلم الكونيّ والمعرفة الحرّة والثقافة بمفهومها الحقيقيّ الذي يجهله كثيرٌ من الذين سمّوا أنفسهم مثقفين؛ حتى اكتشف هو بنفسه ما لم يكتشفه غيره من عامة الناس ولا من علمائنا المعاصرين، فاقتنع اقتناعاً حقيقياً بالعقيدة التي اختارها بإخلاص (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر) فعاد لها عملاقاً يخدمها ويشرحها للملايين من الناس الذين كانوا في شكٍّ جهلاً أو وسواساً فبيّن لهم حدود العلوم الكونيّة التي وصل فيها إلى مراتب غير مسبوقة بالشكل الذي فصّله تجربة وتحليلاً فكرياً متطوراً، وعاد به مؤمناً بأنه من عند الله وحده دون شريك، طارحاً لعامة الناس وخاصتهم خلاصات علمه الغزير وفكره الموهوب وثقافته الواسعة التي أثمرت أعمالاً خالدة ستظل تتناقلها الأجيال من محبي المعرفة.. أبهذه السهولة يحكم على عقيدة رجلٍ كبيرٍ كهذا شابٌ صغيرٌ سمع عنه كلمتين قالها شابٌ آخر..؟!

لم يكن الدكتور مصطفى محمود رجل علم عادياً، ولم يكن رجل دين عادياً، بل كان أديباً مبدعاً ومثقفاً حرّاً، لا يقيد حريته شيءٌ سوى اقتناعه، فاستخدم العلم ليصل إلى الدين، بكل حواس الأديب المثقف المبدع، فيا ليت شبابنا ممن يحبّون إطلاق الأحكام أن يطالعوا إنجازاته أولاً ثم ينظروا: هل على مثله تطلق الأحكام؟!

هو ليس لاعباً يركض خلف كرة ممتلئة بالهواء، بل هو كان يركض خلف الكون كله باحثاً عن أشياء لم تخطر ببال أحد قبله من العلماء والمفكرين، وذلك ليس تفخيماً له بل هي حقيقة يدركها كل من كان متابعاً جيداً له. وقد ظُلم الرجل كثيراً لأسباب سياسية في أواخر عمره، وشُنّت عليه حملة قاسية بعد إصدار كتابه المعنون (محاولة لفهم الشفاعة) وقدّم بعضُ زعماء تلك الحملة أموالاً للمطابع من أجل طباعة كميات هائلة من نسخ مزورة للكتاب بتغيير في عنوانه فجعلوه بعنوان (إنكار الشفاعة) الشيء الذي أصاب الرجل بصدمة طرحته مصاباً بجلطات في المخ والقلب جراء ذلك الظلم والاعتداء الفكري عليه بالباطل. ومعظم الناس ممن لم تتح لهم فرصة قراءة الكتاب الأصليّ ظنوا أنه قد أنكر الشفاعة فعلاً، وظنوا أنه قد أخطأ خطأ فادحاً، بينما الحقيقة التي أراها واضحة أن أعداءه افتعلوا تخطئته بدهاء وخبث ومكر وتخطيط ومؤامرة. فالرجل أراد أن يقول للناس إن الوقت والجهد والتضحيات التي تقدمونها لغير الله طلباً للشفاعة لكم عند الله كان الأولى أن تكون موجهة لله وحده من دون وسيط، بعد أن بلّغتم با لرسالة على وجهها الأكمل. غير أن المتربصين به أخذوها عليه بأنها الإنكار على الرسل شفاعتهم للناس عند الله (!) فهل تحتاج المسألة إلى كثير شرح لنعرف عقيدة الرجل الخالصة لوجه الله تعالى..؟

يقولون: والأنبياء والرسل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله، هل التوجه إلى الله إنكارٌ لرسله؟! وهل أداءُ الفرض – حين يكون الفرضُ لا حدود له – تقصيرٌ في النفل؟! وهل ما يفعله بعض الناس في كثير من بلدان العالم الإسلاميّ من تقرّبٍ يصلُ حدودَ الشرك مقبولٌ أن يترك دون تنبيه إلى خللٍ عظيم؟!

أعترف أنني لا أملك الأسلوب المقنع الذي كان يتفرّد به الدكتور مصطفى محمود وهو يخاطب عامة الناس من القراء والمشاهدين، لذا سأتوقف عن الشرح حول فكره – أو أزمته مع فكرة كتابه عن الشفاعة - داعياً كل من تساوره الشكوك حول عقيدته أن يقرأ كتبه ويشاهد علمه وإيمانه، قبل أن يرتكب جرماً عظيماً بإطلاق الحكم الجائر عليه..

ومن الأشياء العظيمة التي أحسن الله بها على مصطفى محمود في سنواته الأخيرة أن مكّن له أن يتولى بنفسه دحضَ كل التهم التي ألصقها به أعداؤه حين ظهر في مقابلة تلفزيونية مع محمد بركات في برنامج (مواجهات) على شاشة قناة (اقرأ) التي – كما يقال – امتنعت عن إعادة بث الحلقة لأسباب غير معروفة، فلم أكن قد شاهدتها حين أعددتُ الملف عنه للجزيرة الثقافية، المنشور بتاريخ 7 يوليو 2008، مما جعلني أطلب من كل المثقفين الذين دعوتهم للمشاركة بكلمات في الملف استبعادَ الخوض في تلك المسألة لأنني ما كنتُ أعرف ردَّه عليها؛ أما بعد وفاته فقد رأيتُ الحلقة كاملة على (يوتيوب) وأنصح الآن كل هواة إطلاق الأحكام (غيابياً وغيبياً!) أن يضحّوا بالقليل من أوقاتهم لمشاهدتها كاملة (عنوانها: اللقاء الممنوع مع مصطفى محمود عن الشفاعة) وعدم الاكتفاء بأخذ الاتهامات الطويلة العريضة التي كانت تتهاوى عليه بشراسة من خصومه المشاركين بمداخلات في البرنامج حتى يبدو للمشاهد أن الدكتور مصطفى محمود سيسقط في يده ولن يتمكن من الرد (!) في حين نفاجأ بأن ردوده كانت لا تخرج عن مزيد من الحسرات على هؤلاء الذين انشغلوا بالكذب والافتراء حتى صدّقوا كذبهم وافتراءهم على الرجل حياً وميتاً..

ختاماً أقولُ بعقيدةٍ مِلؤها الإيمانُ باللهِ: رَحِمَ اللهُ الدكتور مصطفى محمود، العالم والمفكر والأديب الفنان الذي أضاف للبشرية في عصرنا ما لم يضف مثلَه أحدٌ من الحاقدين والعاطلين المتوهمين بأنهم (حُكَّام العقيدة)، وأنهم وغيرهم - من هواة الثرثرة والصفاقة - يحقّ لهم أن يكونوا الناطقين باسمها، وهم أجهلُ الناس بها - للأسف!

- الرياض **** ffnff69@hotmail.com