Saturday 16/11/2013 Issue 417 السبت 12 ,محرم 1435 العدد

صناعة الشيطنة (1)

تدمير الشخص وتشويه النص

(أ)

في صغري، كانت لفظة شيطان وتصريفاتها: (تشيطن، شيطنة، مُشيطن) على ألسنة (بعض) العائلات، تطلق علينا نحن الصِّبْيَةُ الذين أنعم الله عليهم بفرط الحركة والشغب وجرأة المغامرة والفضول وعدم الارتداع من العقاب أيضاً، وكانت في نواياهم لا تخلو من دلالات محبّبة تدلُّ على ذكاء اجتماعي واستقلال ذاتي واعتداد وثقة بالنفس، وفي أحايين أخرى تحمل دلالات غير محبّبة كالتأخُّر الدراسي وعدم الانضباط وعصيان الأوامر.. وكلّها جلبت المتاعب لأهلنا، لكن نواياهم لم تكن تضعنا - نحن أبناءهم المشاغبين - في حالة تشابه مع (الشيطان الرجيم) في الفضاء الديني، ولا في (خانة العدو) في الفضاء السياسي، وهو محلّ موضوعنا في صناعة الشيطنة؛ إذ تأخذ اللفظة أبعاداً دينيّة على دلالة الشرّ والانتباذ وإفساد المشروع السياسي الصحيح، وتأتي منتجاتها على أشكال ومسمّيات مختلفة، تتعدّد وظائفها: بين تدمير سمعة الشخص، وتدمير تفاصيل الواقع؛ ما يُخرج نتائج غير مربوطة بمسبّبات تتوافق مع العقل والواقع نفسه. وكلا التدميرين أو التحريفين في التعامل مع الشخوص والواقع يؤدّي إلى تجميد العقل عن عمله، وهو أخطر آثار الشيطنة على الإنسان.

فما هي الشيطنة إذاً؟ هي تحريف الشيء (شخصاً أو واقعاً أو تاريخاً)، وبطلانه وإقصاؤه لأسبابٍ ليست موضوعيّة في الشيء عينه. وقد تعمل الشيطنة في الاتجاهات الثلاثة الآتية: (الشخص والنص، التاريخ/الواقع، العقل/المنطق).

(1)- فالشيطنة على مستوى الشخصنة الهدف منها إقصاء الشخص وتدميره عبر تصويره خطراً على الأمن والناس، وإلصاق صفات مكروهة وطنيًّا، وتنصيبه عدوًّا بما يحمله من أعمال وأفكار سياسيّة تتعارض مع أهل السلطة السياسيّة والدينيّة.

(2)- وتأتي صناعة الشيطنة في تدمير الحالة: (تاريخاً أو واقعاً)، وذلك بالتركيز على جزءٍ فاسدٍ (حادث أو مختلق)، واختزال التفاصيل جميعاً في هذا الجُزيء. والهدف من (حرق) التفاصيل وطمسها تاريخاً أو واقعاً يضلّ قراءة التاريخ، ويقدّم واقعاً مسنوداً إلى مرجعيّة مشكوك فيها، ويكون لفاعل الشيطنة أن يحقّق أهدافه التبريريّة لفشل سلطته على الواقع تحت أسباب مجتزأة أو مختلقة، فيصنع منها (شمّاعة)؛ ليعلّق عليها الفاعل السياسي/أو الديني/أو التاريخي أخطاءه، فلا يعترف بها، بل ينسبها إلى (شيطان مصنوع) أيًّا كانت تسميته، فإنّ وظيفته تتشابه مع وظيفة الشيطان الديني الذي يفسد الإيمان، ويشوّه للناس الطريق القويمة.

(3)- وتأتي الشيطنة في مواجهة العقل وتدميره، عبر تجميد عقل المرء المتلقّي، وزيادة مناعته ضدّ المنطق المضاد القادم من جهة الخصم/ الشيطان، حتّى يُفضي به إلى تحويل العقل إلى عدو للعقل والمنطق، وهو ما يفسِّر السبب في شيوع ذهنية: (عنزة لو طارت) في بيئة رزحت تحت صناعة شيطنة العقل منذ (تمنطق تزندق).

(ب)

عُلّقت لوحات إعلانيّة ضخمة على أرصفة عدّة في أوروبا أواخر سنة 1990، بعد اجتياح الجيش العراقي للكويت في الثاني من آب، تُظهر صورة هتلر وأخرى لصدّام حسين، ومكتوب في أعلى الإعلان: (يا إلهي.. قد عاد ثانية). هكذا تبدأ شيطنة صدّام حسين في عيون الأوروبيّين عبر تصويره متماثلاً مع (هتلر) المُشيطن أوروبيًّا، وما يحمل اسمه من دلالات في عقليّة الأوروبيّ المتشرّبة لتاريخ الحلفاء المنتصرين: (حرب عالميّة، نازيّة استبداديّة، عنصريّة عرقيّة، وتبعاً لادّعاءاتهم تعني أفران الغاز أو ما يعرف بالهولوكوست). وجاءت تلك الشيطنة ضرورة أخلاقيّة في مصداقيّة العلاقة السياسيّة بين السلطة والمواطنين، أولاً: لتبرير تحوّل الحليف إلى عدو، وثانياً: لتبرير ضرورة الحرب. هنا تلعب الشيطنة تحضيراً للأكثريّات الأوروبيّة السياسية ولنفوذ اليمين اليهودي غاية في الموافقة على دخول الحرب ضدّ العراق؛ لأنّ العراق يحكمه (شيطان هتلري)؛ سوف يدمِّر العالم واليهود أيضاً؛ فلا بد من هذه الحرب وهي المنبوذة أوروبيًّا بعد فاتورتين تاريخيّتين في القرن العشرين، دفعتا أكلافاً لا تعادلها كلفة في التاريخ المعروف. والملاحظ أنّ الأنظمة العلمانيّة الغربيّة لا ترعوي تقترض من الأحزاب الدينيّة (آليّة الشيطنة) لأجل إقصاء خصومها السياسيّين الخارجيين، وإن لم يكن في الداخل الوطني، لكنّها آليّة معتمدة في علاقاتها الدوليّة، وذلك على نهجٍ في السياسة يطغى على تلك الأنظمة يتمثّل بازدواجيّة المعايير في أنظمتها السياسيّة والفكريّة، ويتأرجح بين قيمها السياسيّة في التعامل السياسي والأخلاقي الداخلي، والتعدّي على القيم ذاتها واستباحتها في العلاقات الدوليّة تفاوضاً وتعايشاً أو صراعاً بين الأمم.

(ج)

يسعى هذا الموضوع أن يناقش أشكال ووظائف (الشيطنة) وإنّ تبدّلت مسمّياتها: (مؤامرة، بروبوغندا، قوى الشر، العدو، كلمة حقّ يراد بها باطل)؛ فكلّ هدف مردّه إقصاء طرف بالاعتماد على الشخصانيّة والابتعاد عن الموضوعيّة، و/أو إيجاد أسباب غير موضوعيّة في تبرير فشل وعجز، وإحالته إلى شمّاعة مختلقة، و/أو اختزال الواقع أو التاريخ في جزيئات مبتورة وتكبيرها لتمحو التسلسل التراكمي للتفاصيل، و/أو تجاهل المنطق والحجّة والعقل في قراءة الواقع فكراً وممارسةً، فإنّه يندرج تحت (منتجات صناعة الشيطنة).

ويأتي الموضوع بينما المنطقة العربيّة ووسائلها الإعلاميّة تتفسّخ فيها العقود الاجتماعيّة التعايشيّة في أجواء متطرّفة، تتنازع فيما بينها على شيطنة الفرقاء، وإن كان «الإخوان» اليوم يواجهون (عنف الشيطنة) التي ما انفكّوا يمارسونها ضدّ خصومهم أثناء فترات المعارضة الطويلة في مصر والمنطقة العربيّة، فإنّ أيّ معترضٍ على الطريقة المطروحة (واقعاً وإعلاماً) في عنفها وابتعادها عن العقل فإنّه لا يسلم من الشيطنة والأخونة، وإن كان علمانيّاً. كما أنّ أيّ معترضٍ على تبرئة الإخوان، والطريقة التي يصوّرها إعلامهم (الجزيرة مثلاً) على أنّهم مظلومون، وأنّهم دعاة خير وصلاح، وأنّهم أهل كفاءة ودراية، فإنّه يتّهم بالكفر، وإن كان من كوادر الإخوان الإصلاحيّين أو المنشقّين. والمسألة تتعدّى هذه الحدود، بحيث إنّك إن خالفت أحداً في رأي خارج نطاق الجدل السياسي لأخرج عليك عصاة الشيطنة، واتّهمك بالكفر وبالتخوين أو بالأخونة وبالإرهاب، وجميع الاتهامات هدفها إنهاء الجدل الموضوعي، والانتقال إلى غفلانية الشخصنة وتشويه الواقع.

تستند الشيطنة في صناعتها إلى تحريف الكلام، وبتر السياقات، وإنتاج السيناريوهات المختلقة.. وأيّا تعدّدت صناعاتها فإنّها تستهدف الابتعاد عن مناقشة مزاعم (المُشيطن) في سياق كامل، وتخفي تفاصيل الواقع تحت حجّة: (يكمن الشيطان في التفاصيل). وفي الحالة الإخوانيّة ومعارضيهم، فإنّ كلا الطرفين لا يريد قراءة أخطائه، ومدى خطورة استغلال الدين في الخطاب السياسي؛ وهي مسائل مطروحة على الإسلام السياسي منذ إحيائه حديثاً - لطالما له جذور تاريخيّة في المعارضة المسلّحة الإسلاميّة - وقد تورَّط فيه الإخوان المسلمون ليكون عاملاً مع عوامل عدّة عطّلت نشوء الدولة العربيّة المعاصرة، وأدخلت سكّان المنطقة ودويلاتها في نزعات عديدة بين أوهام فقدان الخلافة وكفرانيّة نشوء الدولة العلمانيّة، فليس يسيراً تبرئتهم بمعيّة الأنظمة السياسية من كوارث عديدة أثناء المعارضة. لكن هستيريا الإعلام العربي الراهنة تفرّخ صراعات جانبيّة في الواقع؛ ما يُطيل فترة الانحطاط العربي إلى سنوات أخرى، بفضل الانشغال بآثار الشيطنة والابتعاد عن متطلّبات الواقع بتفاصيله (التفاصيل التي يصرّ السياسي والديني في تحالفهما على تجاهلها أو الادّعاء بعدم وجودها، وإحالتها إلى التباسٍ شيطاني في عقل من يقول بها).

هل العرب عاجزون عن التعدديّة السياسيّة؟ فإزاحة الإخوان عن المشهد السياسي مثلاً لا تختلف عن دخولهم فيه، فلا الدخول ولا الخروج تمّ بناء على منظومة ديمقراطيّة بنائيّة، تفصل بين السياسة والدين فصلاً لا يُعطِّل الدولة المدنيّة ولا يُفسد مقاصد الدين الجليل. لذلك يتم إزاحتهم بالطريقة نفسها التي كانوا يستخدمونها في إزاحة خصومهم، (التكفير، والتخوين)، هكذا نفهم مقتل الإخوان في الاستبداد بكلّ السلطة وتكفير الخصوم، ثمّ نفهم أكثر العنف المسلّح في (رابعة العدويّة) وتكفير الإخوان عبر مفتي الديار المصريّة السابق د. علي جمعة وبعض الأزهريين، أنّه تأكيد على عدم استعداد ساسة المنطقة العربيّة للتخلّي عن العنف واستغلال الدين في مسائل محض سياسيّة، وهو ما يبعدنا مسافات بعيدة عن التعدّدية السياسيّة، ويجعل الحديث عن دولة مدينة وديمقراطيات وانتخابات مجرَّد هرطقة واستخفاف بالعقل العربي. والمسألة هنا أنّ إقصاء الإخوان لم يتمّ عبر علمنة الدستور والعمل السياسي وحظر استغلال الدين في السياسة، بل تمّ عبر وسائل الشيطنة من تكفير وتخوين وتُهمٍ بالإرهاب. هكذا يستمرّ العربي (مرعوباً-مهدّداً) بتهم الشيطنة لأجل إخراجه من الساحة السياسيّة وتدمير مصداقيّته شخصيًّا، بغض النظر عن البضاعة السياسيّة أو الفكريّة التي بين يديه.

(يُتبع...)

ياسر حجازي - جدة **** Yaser.hejazi@gmail.com