Saturday 16/11/2013 Issue 417 السبت 12 ,محرم 1435 العدد

قصة قصيرة

هازم

دخلت (سارة) باب الشقة على مهل فذلك الحذاء العالي يجتذبها للأرض فتمشي على مكث.. لم تلتفت إليه فقالت وهي تقذف بشنطتها اليدوية على الكرسي الهزاز الذي تحبه في صالة الجلوس «ألم أقل لك بأنهن كلهن.. كذابات؟!». ثم أردفت وهو يدخل خلفها «أنت دائماً أيهالرجل هكذا..ترى سراباً بقيعة فيأكل العطش أحشائك فلاتنظر إلا لما تحت عينيك وتلهث خلف اللاشيء وأنت تحمل كل حقائبك الغالية وتحمل قلبك اللدنّي بين يديك حتى إذا وصلت عند هذا السراب صار فؤادك المكلوم كالعهن المنفوش وضربت كفّاً بكفّ حين لاينفع الندم» وطفقت سارة تؤنبه وتقرّعه حتى أحس (حازم) بوخز ذلك الكعب العالي الذي توشك أن تخلعه سارة كأنه على قلبه المتوتر.

«خلاااص.. يكفي.. فهمت».. قالها حازم وهو يولي وجهه شطر الغرفة الأخرى لعل حجاباً من ستر الهدوء والخلوة يعطيه ماأخذته من هذه الليلة النابغية: فبتّ كأن العائدات فرشن لي... هراساً به يقلى فراشي ويقشبُ

دخل غرفته ولم يدرك أن يغلق الباب تماماً حتى وضعت سارة يدها على الباب «انتظر» قالت، ثم أكملت «مالذي يغضبك في الأمر ؟! ألم تفرح بفكرة ذهابي معك الليلة أول الأمر وأثنيت على أني أتقنت الدور وكانت الأمور على مايرام حتى ظهرت البنت التي كانت تكذب عليك على حقيقتها؟» هزّ حازم رأسه مطأطيء الرأس كأنه صوفيٌّ في الروضة الشريفة، ونظر إليها كأنها يقول «طيب؟». أكملت سارة «نحن النساء لنا كيدٌ عظيم.. ولايطفيء نار كيد المرأة إلا زمهرير كيد امرأة أخرى. المفترض أن تفرح اليوم أن الله أنقذك من هذه الحرباء القذرة التي تزعم أنها تحبك. وثق تماماً أني أختك إلى جوارك أرى الأشياء من حولك أقل التباساً لأني لا أحمل قلبك الذكوري المختطف اللاهب. أنت ياحازم وسائر الرجال تتوقفون بكل استسلام لأول عابرة تلوّح لكم بيدٍ متغنجة وتظنون أنها لك «جولييت» يا «روميو» زمانه، ولكنها في الحقيقة هي تغرقك بغنجها لكي تتوقف لها وتحملها للمحطة الأخرى وتستعملك كقائد الباص العام في الشارع المجاور ولكنها تدفع للباص من عمل يدها مالاً ونقداً.. وتدفع لك من عمل يدها غنجاً وسحراً». حينما قالت سارة ذلك تخيّل حازم أنه مثل الحيّة بين يدي ساحر هندي يعبث بها فقط ليشاهدها الآخرون ولكن حازم رجلٌ لايحمل قدسية الحيّة عند الهندي..ولا ساحرته تحمل انتماء الهندي واحترامه لهذه الحية.

«طيّب» قالها حازم وهو يغلق الباب جيّداً هذه المرّة وهو يسمع بقايا حديث أخته سارة خلف الباب تمارس عادتها اليومية في تذكيره بأنها الأخت الكبرى وأنه لايستمع إليها..إلخ. قذف بجسمه على السرير ولبث يفكّر في أحداث الليلة بينما أخته لاتزال تتحدث خلف الباب وتروي القصص المختلفة والتفاصيل الغير مهمة بالنسبة إليه.. وعن وجوه الناس وألوانهم. سارة بدت كأنها أقلّ إحساساً بالغربة من حازم مع أن الاثنين جاءا في نفس الطائرة قبل عامين إلى «سان فرانسيسكو» -مقر الدراسة- جاء حازم لدراسة الماجستير بينما هي للدكتوراة.

نظر حازم في غرفته إلى سلك «الشيشة» الملتوي المنحدر خلف كتبه كأنه يحدق..غرق في تفكير عميق حول «مورين» تلك الفتاة التي قابلها قبل ثمانية أشهر في مطعم الكلية الرئيسي كانت أمامه تماماً في صف الزبائن وكعادته الفضولية يتفقد المكان كأنه يبحث عن صديق، التفتت إليه هذه الشقراء قائلة «تقدّم..لم أقرّر ماذا سأطلب بعد.» تبسم حازم وقتها وتقدم وقال «جرّبي سندويش الكباب إذا كنتي تحبين الأكل العربي» فردّت على الفور «أووه..فكرة جيدة..بالتأكيد سأجربه». أملى حازم بدوره طلبه على المحاسب في المطعم وأخذ طعامه واتخذ مكاناً قريباً.

لم يمض سوى دقيقتين على جلوسه حتى جاءت تلك الشقراء. وقفت على طاولته: «يبدو أنك لوحدك هنا.. هل تأذن لي بالجلوس؟». «بكل تأكيد» أجابها حازم وعدّل من كرسيه ورفع رأسه وأخذ رشفة من مشروبه المفضل منذ قدم لسان فرانسيسكو «الشاي المثلج بنكهة التوت Raspberry Iced Tea». جلست الشقراء وهي تقول مازحةً «إذا لم يعجبني ساندويش الكباب..سأجعلك تدفع ثمن الوجبة». ضحكا جميعاً وعرّفت بنفسها «مورين» وتحدثا لبضع الوقت وكانت صديقة يسميها حازم بين أصدقائه الخاصين بـ»فتاة الكباب» حينما يتحدث لأصدقائه ويروي لهم تفاصيلها مقلداّ مورين وهي تنطق اسمه «هازم» فيقول حازم لأصدقائه العرب الخاصين «مورين تظنني هازم..وأنا مهزوم!». ويبدو أن حازم كرر هذه النكتة على أصدقائه حتى بالفعل أصبح مهزوماً أمام الفتنة الشقراء وأصبح حازم نفسه يعرّف بنفسه بـ «هازم» حتى لأصدقائه العرب بل وأصبح يخجل من تلك الحاء التي كانت تتربع على حروف اسمه العربي ، بل وكان يضمر في نفسه بأنه يعدّل اسمه بالعربي حينما يعود لبلاده من حازم لهازم.

أصبحت اللقاءات بين حازم ومورين أشبه بالمهمة المقدسة التي لم تكتمل.. يلتقيان فيقبل هذا ويقبل هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام!. بدأ حازم يشعر بإدمان الجلوس لمور ين والحديث إليها ولكنه رغم كل ذلك لايزال يحتفظ بذلك الخيط الرفيع الذي يمنعه من أن يستضيفها حيث يسكن حازم مع أخته سارة أو يعرّفها على أخته. تحدث حازم مع مورين كثيراً حول بلده الأم وعن السعودية وأكّد لها مرّة بأن الناس في السعودية لم يعودوا يركبون الجمال وبأنه هو شخصياً لم يركب جملاً في حياته..وكان يتوقع أن تبتسم مورين وأن تعجب بـ»مدنيته» لكنها فاجأته حينما قالت «لااا.. كنت أتمنى أن أركب جملاً. أحس بأنه أقرب للجمال الفطري» لم يعلّق حازم..لكنه وعدها بأنها حين تزوره هناك سيحقق لها أمنيتها. وكانت تقول له ضاحكة «سنحمل النفط على الجمل سوياً إلى بيتكم في الرياض».

حينما أخبر حازم أخته بعد طول تردد بقصته مع مورين وكان يريد أن يخطبها.. عارضت سارة الفكرة بعنف وشتمته لأول مرة وكانت تقول بأن هذه الشقراء لم ترغب به لطول خشمه العربي ولالبشرته الحنطية العربية.. بل إن هذه الشقراء -كماتصفها سارة- تضع يدها الأولى على كتفه تراقصه.. وتضع اليد الأخرى على جيبه تسرق المال. لم يكن يعجب حازم هذا الكلام بل كان يدفعه للثورة على سارة واتهامها بالغيرة من الفتاة الأمريكية وجاذبيتها. حتى كان ذلك اليوم الذي أقنعت سارة حازماً بأن يلتقيا في حفلة مشتركة للكلية وأن يعرفها على مورين.. وأقنعته سارة بأنها ستختبر هذا العلاقة بينهما وستتأكد بأن مورين لم تكن تطمع بالمال أو تبني كل علاقتها على الرغبة المؤقتة أوالحب الرأسمالي.

حينما قابلت سارة مورين في الحفل كانت سارة تقتنص الفرصة لتتحدث إلى مورين..وحالما رأتها سارة هرعت إليها لوحدها معرفةً بنفسها.. ثم أبدت إعجابها الشديد بشخصية مورين التي تحدث عنها حازم كثيراً. اتكأت سارة على العمود الخلفي واقفة تحكي لمورين «سر هذا الإعجاب الشديد بك هو أنكِ قبلت بفكرة أن تكوني «زوجة ثانية» لحازم ضمن زواج إسلامي شريف وأنتي الكاثوليكية المحافظة..». لم تكد تتحدث سارة بذلك حتى قطعت مورين الحوار واتجهت إلى حازم الذي يحمل شاهيه المثلج المفضل إلى جوار أحد زملاء الكلية الآخرين واقفاً فصفعته قائلة «لماذا تكذب عليّ طوال هذه المدة؟! لماذا كنت تزوّر وضعك العائلي؟! أنت لاتستحق الحب أيهالمخادع» وأخذت كأسه النصف ممتليء وأهرقته في الأرض «اذهب إلى الجحيم».

وكانت خطوات حازم إلى جوار ساره عائداً لبيتهم بالفعل خطوات المهزوم المهزوز لاخطوات الهازم الحازم.

- عبدالله العودة **** abdalodah@gmail.com