Culture Magazine Thursday  18/04/2013 G Issue 403
فضاءات
الخميس 8 ,جمادى الآخر 1434   العدد  403
 
ليس معَ الرأي العام
محرقةُ (الضِّدْمَعيَّة)..!
ياسر حجازي

 

(أ)

في البدء عنونت الموضوع (ضدّ الرأي العام)، وكنت أتأمّله أثناء كتابة المتن وإذ بي أتجنّب القول: (ضد) لأنّها تحمل على الاقتضاء دلالة لا أعنيها، فالضدّيّةُ جبريةُ احتمالين: فأنت إذا كنتَ ضدّ شيْءٍ، لقيل إنّك مع الضدّ الآخر، ولأنّي لست مع هذا ولا ذاك، ذهبتُ إلى (ليس مع) الدالة على نفيّ المعيّة وعدم إثبات الضديّة وما تقتضيه من احتمالات خارج محرقة الضدّية والمعيّة؛ فإن كنتَ لستَ مع الشيء فلا يعني أنّك مع نقيضه المضاد.

(ب)

ليس غريباً أنّ وعياً تُشكّله السلطةُ وتَحُولُ دون فطامه، هو وعيٌ معلومُ المقادير، مُبرمجٌ على تقبّل السلطة بإنجازاتها وإخفاقاتها دون انتقاد وشكٍّ. كذا حال وعيٍ يتسوّرُ متأثّراً بما يُسمّى الرأي العام، هو وعيٌ موجّهٌ لمعارضة السلطة أو تأييدها. وكلا الوعيين: (المبرمج والموجّه) في الامتحان الواقعيّ خاضعان بإرهابٍ لمحرقة (الضِّدْ-مَعَ: ضدّنا أو معنا)؛ والضِّدْمَعَيّةُ: إيحاءُ تخييرٍ كاذبٍ يُفضي إلى تقليص خيارات الوعي إلى جبريّة احتمالين وإلغاء أيّ احتمال غير منحاز لهما، وهي من أدوات صناعة الأكثريّة بالإرغام؛ فالضدُّ هنا تعني أنّك مع هناك، والـ (مع) هنا تعني أنّك ضدّ هناك؛ لا ثالثة للوعي في هذه المحرقة الوائدة، فأيّ حريّة اختيار يدّعيها المرء تحت وطأة بيئة تمارس الضِّدْمَعَيّةَ في فرز وتصنيف المنتمين والخارجين. وحين أقول (الوعي المبرمج أو الموجّه) فإنّ كلمة الوعي تأتي على المجاز، فمن أهداف البرمجة والتوجيه تحويل الوعي إلى آلةٍ بفقدانه خصائصه وطبيعته.

(ج)

الظنّ بأنّ الرأيَ العام صوابٌ لمجرّد إيحائين كاذبين: أنّه يمثّل الأكثريّة أو أنّه في مجابهة استبداد السلطة، هو تضليلُ إعلامٍ موجّه يرتكبه فواعل الرأي العام: (المؤثّرة والرأسماليّة). فأيّما ادّعاءات للرأي العام تخصُّ مُصدّرها أيّاً تعدّدتْ نوايا الفاعلين، فالعلّة تحويلُ الخاص إلى عام عبر النفوذ والقوّة والافتراء؛ فالقول: إنّ السلطةَ كلّها شرٌّ وأنّ مجرّد انتقادها خيرٌ بالضرورة، أو إنّ الآراء التي تنتقد السلطة باطلة وخارجة وهي شرٌّ بالضرورة، إدّعاء تسويقيّ في حالة التفاضل بين أصحاب الأجندات الرأسماليّة القادرة على إنتاج الإعلام وإدارة الرأي العام وبين السلطة السياسيّة. أمّا حالة التكامل بينهما فإنّها حاصلة بالتهادن ووحدة التنسيق تحت ضرورة حماية المصالح المشتركة من أيّ خطر يُهدّدها، وليس مصالح كلّ طرف على حدا. حالة التفاضل إذاً مسؤولة عن اختلاف موقف الرأي العام عن موقف السلطة والتصادم والتضاد معها، أمّا حالة التكامل فإنّها مُصادقة الرأي العام على مقرّرات السلطة ومواقفها في اتّحاديّة تامّة تسدّ الطريق على أيّ معارضةٍ ليس من ورائها منفعة لمصلحة مالكي الرأي العام، والويل لمن يُعارض حينذاك اتّحاد (السلطة والرأي العام).

(د)

تضبط السلطة السياسيّة العربيّة أجندتها استناداً على نظام سياسي يُعدّها ممثّلة عنه، فلا يفصل بينها وبينه. ويضبط الرأي العام أجندته استناداً لأصحاب رأس المال المتأثرين ضرراً أو نفعاً بافتراق أو التصاق مواقف: (السلطة والرأي العام)، فإنّ بوصلة الأجندات تتحرّك باتّجاه مصالح الرأسماليّين والسياسيين، ولا مِن مُجابهةٍ فوق هذين الخصمين المختلفين في الأطماع والمتّفقين في اليمين السياسي الاستغلالي، لطالما يغيب اليسار العربيّ في غيبوبةٍ وتغييبٍ عن المشهد السياسيّ في انزواء هو الخطر في تاريخ اليسار السياسي.

(هـ)

ما هو الرأي العام، ولماذا أبدوا ساخراً منه أو معترضاً عليه: (اصطلحوا- ويا له من اصطلاح) على أنّه مجموعة الآراء المطروحة عبر وسائل الإعلام الرسميّة والأهليّة والمنابر العموميّة. وأنا لا أعرف كيف يقبل عقلاً أن تختزل مجموعة آراء في رأي واحد، وكيف يمكن لرأي أن يكونَ عاماً!

وهذه المجموعة من الآراء المختلفة إن بدأتْ وبَدَتْ مختلفة عند الحاجة لنشوء موقف أو رأي، فإنّها سرعان ما تذوب وأداً بالإصرار على التضليل والتوجيه وتصبح رأياً أحاديّاً على غلبة أكثريّة الوسائل وأقواها تأثيراً، فإمّا مؤيّداً للسلطة أو معارضاً لها، أو مؤيّداً لقضية ما ومتجاهلاً لأُخرى؛ وهذا التوجيه في استهداف العامّة والخاصّة على السواء لا يتحمّل معه أيّ مختلف عنه، ولعلّه لا يقلّ عنفاً وتشهيراً عن السلطة السياسيّة لطبيعته الواسعة التأثير والذيوع؛ فإذا ما طُرح رأي يُشخّص الصراع في الخليج على أنّه صراعُ مصالحٍ ونفوذٍ، ويُطالب بإدارته من هذه المنطلقات السياسيّة الواقعيّة، وأنّه ليس صراعاً طائفيّاً مرتبطاً بعقائد وثقافات شعوب المنطقة، (فكيف وأيّ تفاوض سياسيّ في مسائل عقائديّة!) فإنّ رأياً كهذا يتعرّض للإطفاء ولن يلقى أثراً لطالما التوجّه والتوهّج الإعلامي والرأسمالي والسياسي تُصرّ على تصوير الصراع طائفيّاً وعقائديّاً، كأنّ من مصالحهم الآنيّة أن لا ينتهي هذا الصراع قريباً.

وأيّ رأي يعتبر الجيش الحرّ السوري سبباً رئيساً لا يقلّ مسؤوليّة عن النظام في تدمير مدن سوريّة وأريافها، واستباحة أمن الناس وعصمة نفوسهم وحرمة دمائهم، وارتكاب جرائم حرب وقتلٍ للمدنيين (كأنّ قتل العسكر مباحٌ لمجرّد الاختلاف مع السلطة والنظام)... فإنّ رأياً كهذا يُهدّد حياة صاحبه في مكان ما، وليس بناجٍ عن تُهَمٍ التخوين والتكفير، وكلّ ما في المسألة: (رأيٌ مُخالفٌ ومختلفٌ، رأيٌ ليس مع الرأي العام).

(و)

إنّ تفكيك مصطلح (الرأي العام) يبيّن مدى استحالة وجوده؛ فكيف رأيٌ مثلاً ويكون عاماً، هل يستويان؟ إنّ مفردتي المصطلح تحملان دلالات متنافرة، والجمع بينها كالقول بالمستحيلات؛ حيث إنّ الرأيَ تدلّ على ثبوتيّة وقوّة كونها معرّفة وليست نكرة، وعلى يقينيّة وقطعيّة، وعلى إفراديّة وأحاديّة، وعلى انتسابيّة وخصوصيّة، وحيث إنّ العامَّ تدلّ على عموميّة وأكثريّة، وعلى تعدّد وتنوّع، وعلى تقلّبٍ وتفاوتٍ، وفوضى معرفيّة، فكيف يستويان في سياق استناديٍّ وبنائي!!

فإنْ كان للعام رأيٌ واحدٌ لذابَ العامُّ في الخاصِّ وفقد طبيعته في الاختلاف والتنوّع والفوضى أيضاً، فأيّ مبرّرٍ في استخدام هكذا مصطلح والترويج له سوى طمس العامّة وتزوير آرائها! وإذا كان الرأيُّ عامّاً لم يعُدْ يحمل من صفات الرأي وطبيعته الخصوصيّة، فأيّ تزوير يهدف إلى تحويل الشخوص الفعليين إلى شخصٍّ مفترضٍ اسمه (العام) يسهل تطويعه وتسويقه، ثمّ يكون الاحتكام للأكثريّات في أيّ معركة سياسيّة أو غيرها تحتاج إلى ضغط الأكثريّة. هكذا يصنع رأس المال (الأكثريات) حين يئدُ المواقف والآراء ويضغط بالتنوّع والتعدّد في كبسولةِ رأيه الخاص ويصدّره على أنّه: (الرأي العام) .

(ز)

لستَ ضد: لا تعني أنّك معَ أحدٍ.

لستَ مع: لا تعني أنّك ضدّ أحد.

في طورٍ ما من العمر تعرفُ أنّكَ تحت برمجةٍ وتوجيهٍ من جهات عدّة؛ ولأسباب غامضةٍ تنحلُّ الشفرة والشِّبَاك ويخرج الوعي من محرقة الضدمعيّة إلى رحابة الوعي الإنساني، لقوّةٍ مخبوءةٍ في الوعي تعصمه أن يتأبّدَ في العماء المطلق، ولشُعلةٍ في الروحِ لا تفترُ إلاّ بانطفاء النفس.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة