Culture Magazine Thursday  18/04/2013 G Issue 403
فضاءات
الخميس 8 ,جمادى الآخر 1434   العدد  403
 
«حطي كلمن»
عندما أهرب مني في «الأندرقراوند»
خلود العيدان

 

- خطوطه الملونة وسرعته التي تعتادها نبضات القلب برتابة عجيبة، وكأن الدنيا تجتمع تحت الأرض بلا تخطيط.

* الخط الأصفر الذي أقف خلفه لكي لا يصفعني شريط حياتي المختزل في تيار هوائي بارد قبل قدوم القطار، أجهل تماماً لِمَ شريطي ذاك ليس كما نراه بالسينما مرتباً ومتدرجاً، وتصاحبه موسيقى تصويرية مناسبة للأحداث! شريطي متقطع، غير واضح ولا مكان للموسيقى فيه، إنه دائماً مصاحب بصوت باب يقفل ويفتح!!

* ضجيج اللغات المتعددة التي تصل لأذني هناك مع محاولاتي الدائمة والفاشلة لتمييز جذورها، ورائحة (الأندرقراوند) المميزة في هذا الوقت من العام، تلك التي تختلط فيها العطور برائحة الملابس المشبعة بالمطر والحبر المبلل من الصحف المجانية، وأكاد أراهن أنني في كل مرة أدخل عالمهم الأرضي لا بد من صوت موسيقى تتنصل من سماعات صاحبها، وتفرض نفسها على الجميع بلا استئذان.

* مع أزيزه الذي يأخذ نفساً عميقاً عند كل محطة لتقفز في ذهني ابتسامة إليزابيث، ولا أدري لماذا! ربما هي ساكنة في أحد أركان عقلي الباطن الذي تشبع بلقطات لها هنا وهناك، مروراً بالبطاطا الإنجليزية الشهيرة وأكياس الشاي الصغيرة، وانتهاء بابتسامة بلهاء لسائح يحاول جاهداً أن يحصل على ابتسامة بالمقابل من شرطي إنجليزي مل حملقة الناس فيه. تفاصيل ساذجة يحتفظ بها عقلي لا بد أن أعترف.

* الهواجس تقتتل هنا، أسئلة كثيرة دون عناء البحث عن إجابة، وملايين الأجوبة بلا سؤال!!

خطوط رسمها لي منذ زمن شيخ وفقيه ومن ادعى سلطاناً، وأجدني هنا في عنق الازدحام أبحث عن خطوطي تلك دون أن أعرف السبب، أتشبث ببعضها، وألقي بالبقية تحت عجلات القطار!

* الازدحام ينعش ذاكرتي دوماً.. أغمض عيني هاربة من محيطي الإنجليزي، أتذكر جيداً سائقي زهير ورحلاتي داخل الرياض وإدارتي للدفة من مقعدي الخلفي، لوحة بنك الراجحي التي تعلن قرب وصولي إلى البيت، شرفة مطعم لوسين في سنتريا، رائحة البهارات، قهوة أمي والسكري الفاخر، محمصة الرفاعي، طريق الملك عبدالله وصوت الأذان.

* أفتح عيني لأطمئن على خط سيري محملقة في الخريطة المعلقة أمامي على جدران القطار، أعلم جيداً أن البرد ينتظرني في الخارج؛ فأتشبث أكثر بمعطفي الأسود الذي يخبئ خلفه عشرات الطبقات من الملابس الملونة!! وكأن مهرجاناً صيفياً ينتظر لحظة إعلان بدء الاحتفال بفارغ الصبر.

* في محيط دائرتي التي كُسرت يحيط بي ثلاثة من البشر، يبدو أني كسرت دائرتهم أيضاً.. تلك الهالة السعودية التي ولدت معي كما يدّعون لم تعد حاضرة.

* يخف الازدحام المجنون ما بين محطة وأخرى، عندما ينزل فوج أتنفس أعمق، وكأني أسرق نصيبهم من الأكسجين.

* الأعين الملونة والأردية الغامقة كلها تشي بشيء من يومهم البارد، البارد جداً.

* حفظت مقاسات وألوان الأحذية الإنجليزية، اللامع منها والرديء والمزركش، وحتى ما تلطخ منها بالمطر، أرسم الهيئة من حالة الحذاء، وأرفع عيني سريعاً لأتأكد من توقعي، لعبة أمارسها مع الغربة، وربما هي من تمارسها معي.

* أتأملها جميعاً هرباً من الوجوه ومن الضيق المجنون تحت الأرض، والآكد هرباً من هواجسي التي تنقض علي بمجرد أن يغلق الباب وتلتصق الأرواح ببعضها.. وكأني في مواجهة يومية مع نفسي.

* أرتفع ببصري قليلاً وأبتسم.. يبدو أني لست وحدي التي تحفظ الأحذية عن ظهر قلب.. تُرى، هل يخبرهم حذائي بأني عربية هاربة من أفكاري؟

* أسجل بهاتفي أفكاري الهاربة هنا، التي تصطدم بأبواب القطار المغلقة وتعود لي مستكينة، أسجلها بهاتفي وكأني أتدرب يومياً استعداداً لعرض بهلواني في سيرك متنقل.

* لعبة التوازن التي أحاول إتقانها ما بين الوقوف رغم اهتزاز وجنون القطار السريع، وإبهامي الذي ضجر من الشد العضلي لكثرة ما أستخدمه في الكتابة! أقدّم القدم اليمنى قليلاً وأرجع اليسرى إلى الخلف. هاتفي بيدي اليمنى، والباقي مني متكئ على كتف القطار. أكتب، أكتب وأكتب.

* في هذه اللحظات السريعة المقتطعة من الزمن عبر خط بيكاديلي الأزرق، التي أكتب فيها آخر صفحة (قابلة للنشر) في مفكرتي قبل أن أبعث بها للصحيفة، أخذت نفساً عميقاً، وضغطت على زر (نقطة).

Kimmortality@gmail.com بريطانيا
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 8337 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة