Culture Magazine Thursday  21/02/2013 G Issue 397
الملف
الخميس 11 ,ربيع الثاني 1434   العدد  397
 
العالم الموسوعي
د. صالح بن عبدالله بن حميد

 

يجمل الحديث عن المعرفة وتعلق النفوس النخب المثقفة بها، وتزدان المنتديات العلمية بالتداولات التي تضيف للعقول وصفاً ورصفاً تكمل به نظرتهم للواقع والأحداث, وتشرئب أعناق الباحثين لأخبار البحث والتنقيب عن المعارف، وأخبار الأمم والدول وتحليلها، ويجتمع ذلك كله حينما تطلع على تلك السياقات الوصفية السردية في مدونات الرحلات التي تعد نقلاً خطياً مصوراً للعالم وما يضمه من معارف في الآفاق وفي الأنفس وطبائع الشعوب ومسالكهم في الحياة، وأثر العلم والجهل والغني والفقر والرخاء والشدة على بناء بيئاتهم، والوقوف على انعكاس العلاقات بين الأمم والأعراف والأعراق.

وقد قيَّض الله تعالى على مرّ العصور وتنوّع الدور رجالاً يعنون بالتنقل والتدوين لما يلاقون ويعايشون من أحداث، ابتداءً من التضاريس سهولاً وجبالاً وبحاراً وأنهاراً وأودية وصحارى، وانتهاءً بالطبائع والسلوك في الأفراد والسياسات والمناهج، حتى تشكّل على ضوء ذلك ما يُسمى بأدب الرحلات، وكان لجملة من رجالات العلم والثقافة والأدب والتاريخ من العرب نصيب وافر، إذ اشتهروا في هذا التخصص، فمن المتقدمين على سبيل المثال: ابن حوقل، والمقدسي، والمسعودي، والبيروني، ابن جبير... وابن بطوطة.

وأما من المتأخرين فقد عُد منهم: الطهطاوي، والآلوسي، وعبدالله فكري، طه حسين وهيكل، وحسين فوزي، وأمين الريحاني، وأنيس منصور..، واختلفت طرائقهم واهتماماتهم ودوافعهم.

وأما في المملكة العربية السعودية، فقد استوفى جانباً منه الأستاذ عبدالله بن أحمد حامد آل حمادي في رسالته الأكاديمية «أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية»، وممن كانت لهم كتب في (أدب الرحلة) من علماء بلادنا وأدبائها ومؤرخيها: العلاَّمة حمد الجاسر، والأساتذة: أحمد عبدالغفور عطار، وعاتق البلادي، وعبدالعزيز الرفاعي، وعبدالعزيز المسند، وعبدالقدوس الأنصاري وعبدالعزيز الرفاعي، وعبدالله بن خميس، وعلي حسن فدعق، وفؤاد شاكر، ومحمد السديري، ويحيى المعلمي، وغيرهم.. وهؤلاء يتفاوتون في مستوياتهم واهتماماتهم، ولكن لم يتخصص أحد منهم بالكتابة في أدب الرحلة.

وقد شاء الله بعزته وقدرته أن يحمل لواء هذا الفن في بلادنا المملكة العربية السعودية معالي الشيخ محمد بن ناصر العُبودي، العالم الموسوعي المعجمي البحاثة الرحَّالة، إذ تمحض لهذا العلم فلم تصرفه المناصب ولم تشغله عن أن ينطلق إلى البلاد والمناظر والمشاهد في أوكارها وفي مرابعها، هواية غذاها ذكاء متقد وعقلية فذة وثقافة واسعة، ثم تطور وترقى في غايتها ليخدم دينه وأمته والدعوة إلى دين الله.

ولعل في المقارنة ما يشحذ الهمم، أحسب أن العبودي المشرقي يفوق ابن بطوطة المغربي، فهو أوسع انتشاراً وأغزر إنتاجاً، وأبعد مدى، ولعل مواصلات هذا العصر واتصالاته قدمت الأول وعذرت الثاني.

لقد تميز معاليه بوفرة حصيد قلمه وانطلاق بنان بيانه في مدونات جمعت بين التأسيس والتأكيد وبين المنشئ الكاشف، إذ عمر المكتبة العربية والإسلامية بمائة وأربعة كتاب في موضوع الرحلات، ولديه أكثر من ستين كتاباً تنتظر الطبع، وكذلك ما يزيد على ثلاثين كتاباً في الدعوة واللغة والأدب والتاريخ والاجتماع والتربية، بعضها في مجلدات عدة متوفرة في معظم المكتبات، عكست هذه الكتب شخصية الداعي المربي والأديب والرحالة والمؤرّخ والعالم الفقيه.

وقد تقصى الأستاذ محمد بن عبدالله المشوح في كتابه الممتع (عميد الرحالة محمد بن ناصر العبودي) كل ما يتعلّق بأدب الرحلات عند الشيخ محمد العبودي.

المتأمل في شخصية معاليه يبرز له تكوّن ثلاث شخصيات علمية تدرك شواهدها بتتبع نتاجه - حفظه الله- وهذه الشخصيات على النحو التالي: الشخصية الأولى: شخصيه الرحالة محمد العبودي، فقد عرف - حفظه الله- برحلاته الماتعة التي نهض بها حبه للبحث والاطلاع، ولذلك آلت لديه السياحة وسيلة للدراسة والوقوف على ما في بلاد الله من العجائب والغرائب، إذ كانت تلك السياحة والرحلة والضرب في الأرض من أكبر عوامل بناء شخصيته ومعارفه الجغرافية والشعوبية والنسبية والتاريخية، والناظر في كتابه «معجم بلدان القصيم»، الذي استوفى فيه لكل بلد حقه ومستحقه من الوصف الدقيق، فقد عني بذكر الأسر التي تقطن البلد، ويتبع ذلك بذكر أسماء الشخصيات البارزة من سلالات تلك الأسر في الجوانب العلمية والاجتماعية كافة، وقد اتسم مؤلفه «معجم بلاد القصيم» بعرض الشواهد، والوصف، والربط بأصوله العربية وما ارتبط بذلك من أحداث ووقائع.

كما أن كتب الرحلة التي دوَّنها، والتي تعرض طبائع بلدان الدنيا شرقها، وغربها، وشمالها، وجنوبها بحارها وقارها وغيرها من البلاد التي تعسر تضاريسها كما تعسر معرفة أسمائها وأصول وأعراف سكانها، كان معاليه يسردها سرداً تعجب منه العيون، وتطرب له الآذان، وتتغذى به عقول المثقفين والمؤرّخين والأدباء وطبقات أهل العلم كافة..

الشخصية الثانية: شخصية اللغوي الأديب أبو ناصر، إن عناية معاليه باللغة وتراكيبها وأصولها تظهر لمُجالِسه من أول وهلة، إذ عرف بجزالة مكتوبه ومنطوقه، كما تميز بتتبعه لأصول اللهجة العامية وبذل الجهد لتأصيلها من مفرداتها وألفاظها وأمثالها في سباقها ولحاقها، فمن المدوّنات في هذا الشأن «معجم الألفاظ العامية»، و»تكملة المعجم اللغوي في جزيرة العرب»، أو «معجم ما ليس في المعجم»، و»الكناية والمجاز في اللغة العامية» و»الأصول الفصيحة للأمثال الدارجة» و»غرائب الألفاظ النجدية ذوات الأصول الفصيحة»، ومما يؤسف أن جملة من هذه المؤلفات لا تزال رهينة الأدراج، أمد الله في عمر شيخنا ليبعثها من مرقدها.

الشخصية الثالثة: شخصية الفقيه العالم، إن تواصل الشيخ مع العلم وأهله عزَّز بناء الشخصية الفقهية لدى معاليه، فهو رحالة داعية معلم ومتعلم، بل ناقد حاذق، فمن تتبع كتابه النفيس حول أسر بريدة وما يعرض له من الوثائق والأحكام القضائية والتحليل الدقيق والعميق لهذه الوثائق، يلمس ملكة معاليه الفقهية، إذ يسلط الضوء في أثناء عرضه لتلك الوثائق وما تعرض له من مبادئ فقهية وتسبيبات وقواعد، فإما أن يبين أو ينقد تحقيقاً لمبدأ التكاملية العلمية بين فصول مدوناته.

إن هذه السطور قد لا تكون موصلة لما أعرفه ويعرفه غيري عن هذا العالم الموسوعي الذي تفخر به بلاد الحرمين الشريفين، وهو من رجالاتها الذين ما فتئوا بذلاً لدينهم ومجتمعهم، وهو مثال يُحتذى للأجيال المثقفة المؤرخة والأدبي، ومن هنا أؤكد على أهمية التواصل مع معاليه ممن يسعى لنشر العلم والمعرفة، وتعزيز الوعي المعرفي للعالم العربي والإسلامي من رجالات الأموال أن يمدوا جسور التعاون والتكامل في نشر علم معاليه وتجميل المكتبة العربية والإسلامية بمخرجاته الثقافية التي تنم عن مسيرة حافلة حملت لواء الحق وبذور الخير لتغرسها في العقول والمعاقل.

ومن عظيم الخدمة لمؤلفاته أن يعنى بختمها بفهارس موضوعية تحليلية لما ورد فيها من فوائد ونكت علمية يندر وجودها عند غيره، وقد يعسر معرفة موضعها من مؤلفه.

وإن كان ما أختم به حقه أن يقدم، والمقدمة - كما يقال - آخر ما يكتب وأول ما يُقرأ، والخاتمة آخر ما يُكتب وآخر ما يُقرأ.

أقول إن كان ما أختم به فهو العلاقة الشخصية العلمية التي بين الوالد -رحمه الله - وبين معالي الشيخ محمد - أمد الله في عمره - التي تجاوزت ثلاثين عاماً، وهي علاقة أعلم علم اليقين أن الطرفين يعتزان بها، وكم كانا محافظين عليها حضراً وسفراً، وكم كان الشيخ محمد وفياً لها بعد وفاة الوالد - رحمه الله - فلا أعرف مناسبة ورد فيها ذكر الوالد، سواء في مجالسه أو اجتماعاته أو في مؤلفاته ومدوّناته، إلا وهو يلهج بذكر الوالد معترفاً - جزاه الله خيرا - بالتلمذة عليه، مشيداً بحسن رعايته العلمية وجميل متابعته لطلابه، ولا سيما النجباء والأذكياء والنوابغ، والشيخ محمد العبودي في مقدمتهم، وامتد وفاء الشيخ ليتصل بأبناء الوالد وأسرته، خصوصاً أخي أحمد - حفظه الله - ولي شخصياً، فهو دائم الاتصال والتواصل والذكر الحسن وإظهار الإعجاب والتشجيع، حتى إنه يقول إذا رآنا مشجعاً: بودي لو أن الوالد - رحمه الله - امتد به العمر ليرى ما أنتم عليه فإنه رجل يحب معالي الأمور.

«هذه عبارة الشيخ العبودي بالنص»، أوردتها لأسجل وفاءه وتشجيعه ومحبته للوالد وأولاده، وهو حسنُ ظنٍ من معالي الشيخ وتشجيع كما ذكرت.

سائلاً المولى لمعالي الشيخ طول العمر على خير إيمان وعمل وأن يبارك في علمه وولده ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة