Culture Magazine Thursday  23/05/2013 G Issue 407
فضاءات
الخميس 13 ,رجب 1434   العدد  407
 
المشكل في الهيمنة لا في التعدّد والتنوّع
حسين الواد

 

تستخدَمُ في الدّراسات الأدبية اليوم، في مختلف الجامعات ومؤسّسات البحث بمعظم أنحاء العالم، مناهج شتى تستمدّ كيانَها من نظريات معرفيّة كبرى متعددة وعلوم إنسانية كثيرة ومتنوّعة. من هذه المناهج ما انبنى على مذهب من المذاهب الفلسفية كالوجودية مثلا ومنها ما تأسّس على مذهب من المذاهب العقائديّة أو نظريّة من النظريات كالماديّة التاريخيّة أو علم من العلوم الإنسانية كالتحليل النفسانيّ أو علم الاجتماع أو علم الإناسة أو علم اللسان أو فرع من فروعها واتجاه من اتجاهاتها.

وما كان لهذه الظاهرة أن تستوقف النظرَ، خاصة أن لها ما يشبهها في عدد وافر من العلوم الإنسانية التي تستعمل فيها، هي أيضا، مناهجُ متعددة ومتنوّعة دون أن يثير ذلك استغرابا متى لم يكن، في حدّ ذاته، أمرًا محمودًا تبعًا لما في تنوّع وجهات النظر من ثراء، لولا أن انتشارها في دراسة الأدب وسيرها في اتجاه واحد، نعني من خارج الأدب إليه (فنحن لا نعرف استعمالا لمنهج» أدبي» في غيره من أنواع المعارف العلمية وغير العلمية)، إنما يبدو، عندَ التأمل، ناهضا على مشكلات وقضايا تكاد تختصّ بالأدب أو، على أقل تقدير، لا تتواتر في سواه من كثير المباحث أو المعارف والعلوم.

وممّا ينهضُ عليه انتشارُ استعمال المناهج المتعدّدة والمتنوّعة في دراسة الأعمال والظواهر الأدبية ويتأسّس عليه تنافسُها عليها للاستئثار بها، أن»الأدب»، خلافا للموضوعات التي اهتمّت بها سائر العلوم الإنسانية وغير الإنسانية وضبطتها، ماهية وحدوداً، ضبطا تقلّ وتعظم الدقة فيه، ظلّ، رغمًا عن كثير المحاولات التي رغبت في تعريفه بحوزه وتمييزه عمّا قد يشتبه به من أجناس الكلام والمعارف، عصيًّا على التعريف. ويمكن لأيّ كان أن يستعرض التعريفات التي وضعها العلماء، في مختلف العصور ومتباعد الأصقاع وتنوّع الثقافات، للكائن الأدبي تعريفا تعريفا حتى يتأكد من أنه ظل لا يستجيب لتسويرٍ من التسويرات إلا ليخرج، دائما، عن حدود المملكة التي رسموها له أو يفيض عن معالم الماهيّة التي أسندوها إليه. والذي ينتج عن امتناع الأدب على الانحصار في تعريف من التعريفات أنّ المحاولات التي رمى أصحابها فيها إلى وضع علم له قد وجدت نفسها قاصرة عن الوصول إلى ما رغبت فيه وجدّت في طلبه. ذلك أن تكوّن أيّ علم من العلوم إنما يتوقف، أوّل ما يتوقف، على أن يتمّ ضبط الموضوع الذي يهتم به وتحديده، فما لم يكن ذلك ألفى العالمُ أو الباحث نفسَه لا يعرف الشيء الذي يدرسه.

عدمُ الإفلاح في وضع تعريف للأدب من حيث هو موضوع تعتني الدراسات الأدبية به قد أسلم إلى فتح المجال واسعًا للاقتصار على وجه من وجوهه أو مظهر من مظاهره والاكتفاء به في ضبط الموضوع الذي يهتم بعلاجه الباحثون. فدراسة الأعمال الأدبية دراسة تاريخية إنما تنهضُ على القول بأن للأدب وظيفة توثيقية تسمح باعتماده في معرفة أحوال الأفراد والجماعات في ما تعاقب على الأمم والشعوب من مراحل التاريخ. ودراستها دراسة نفسانية تفترض اعتقادا في أنها تخبرُ عن خاصّة أحوال النفس الفردية والجماعية. ودراستها اجتماعيا تنهضُ على الاعتقاد في أنّ الأعمال الأدبية تخبر عن أحوال الأوضاع الاجتماعية التي كانت عليها المجتمعات التي ظهرت فيها. وعلى هذا النحو يمكن أن نستعرضَ المناهجَ منهجا منهجا ليتضح لنا أن ما يقوم عليه كل منها إنما هو اعتقادها في أن الأدب يمكن أن تطلب منه ما تفترض أنه فيه لتشرع في التماسه.

والذي يوصل إليه طرحُ المسألة على هذا الوجه أنه ليس لأيّ كان أن ينكر على هذه المناهج المتنوّعة أن تعثر في الأعمال الأدبية على ما تتصوّره فيها وتنشده لتقيم عليه كيانها النظري والإجرائي ما دامت تلك الأعمال نفسها قادرة على الإخبار عن أحوال الأفراد والمجتمعات. لا يمكن مثلا أن ننكر أن من الأعمال الأدبية الفذة ما يتضمن من النفاذ من أعماق الإنسان إلى ما يظل علمُ التحليل النفساني نفسه مندهشا من قدرتها على النفاذ إليه. لا يمكن أيضا أن ننكر أن في بعض الأعمال الأدبية من ألوان المعرفة بأحوال المجتمعات ما يستفيدُ منه علماءُ الاجتماع أنفسهم. والسرّ في ذلك أن ما يتخيّله الإنسان عن نفسه ويتوهّمه توهّما، مسرفاً في الاختلاق أحيانًا، لا تقل أهميته في معرفته عن أهمية الوقائع الحاصلة له في واقع التاريخ.

وإذا كان هذا كله ممّا لا يمكن إنكاره إلا من باب التعنت والإمعان في التعصّب والجحود فإن الذي يوفي عليه إنما يتمثل في تساوي هذه المناهج في الاعتداد بما اعتدّت به من شأن الأعمال الأدبية لتقيم عليه كيانها. ليس النقد البيوغرافي في ما يدّعيه من إخبار الأعمال الأدبية عن شخصيات أصحابها التاريخية ووقائع حياتهم بأقل أو أكثر قيمة ممّا يذهبُ إليه النقد الاجتماعيّ أو النفسانيّ أو الإناسيّ من أنها إنما تصوّر أحوال المجتمعات أو أحوال النفسيات أو الشعوب ما دام كلّ منها يؤسّس كيانه ويبنيه على ما لا يمكن إنكاره أو إنكار أن بعض النصوص الأدبية الفذة تصوّره أو تتضمنه.

تساوي النظريات والمناهج المختلفة في اعتداد كل منها بما اعتدّت به لتقيم عليه كيانها أصبح يعتبر، بعد مرحلة من العراك والتنافس، مكسبًا من المكاسب. فاستنادا إلى أن بعض النظريات والمناهج ليس أقل أو أكثر صوابا من غيره في ما يعتقد أنه موجود في الأعمال الأدبية ويطلبه، انتشر تدريسُها واستعمالها جنبًا إلى جنب في كثير من الجامعات العربية. لم يعد يقابل منها بالاستنكار سوى سعي البعض منها إلى بسط الهيمنة على دراسة الأعمال الأدبية مدّعيا أنه وحده هي الذي على صواب ناظرا إلى سواه نظرة التكذيب والتسفيه أو الاستهانة والازدراء. ففي هذا، أوّلا، خطأ إجرائي كبير، فالذهاب إلى أن الأعمال الأدبية توفر معرفة نفسية أو اجتماعية أمرٌ لا يبرّر اختزالها فيه أو قصرَها عليه. ثم إن فيه، ثانيا، مغالطة على غاية الخطورة لأن المنهج الذي يسعى إلى الانفراد ببسط هيمنته على دراسة الأعمال الأدبية بالانطلاق من الظاهرة التي شيّد عليها نظريته إنما يوقر في الأذهان أن تعريفه للأدب، هو التعريف الوحيد الموافق لطبيعته، في حين أنه بات من المؤكد أن الأدب ظل، إلى يومنا هذا، يمعن في الامتناع عن الانحصار في تعريف واحد من التعريفات. والذي لا شك فيه أن مثل ذلك الخطأ وهذه المغالطة قد أسهم، إسهاما كبيرا، في نشر ثقافة التبرير حتى أصبحت راسخة تفسد طريق الاكتشافات العلمية وتطمس معالمها. فالذي ينشد الهيمنة ينصرف عن طلب الحقيقة المؤقتة أو المطردة ويجعل السيطرة نصب عينيه يظلّ يسعى إليها بأيّ الطرق.

تونس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة