Culture Magazine Thursday  23/05/2013 G Issue 407
فضاءات
الخميس 13 ,رجب 1434   العدد  407
 
رؤية
أنا أيضاً اشتركت في اغتصابها
فالح العجمي

 

أولى مراحل اغتصاب الحقيقة تتمثل في تعريتها من سلاسل ارتباطاتها بالواقع المعاصر من جهة، وخلفياته التاريخية من جهة أخرى. كما يقوي هذا الحدث أيضاً انتصاب الحكم والتصنيف، قبل أن يكتمل التصور، وربما بمعزل عن جميع مكوناته.

عزل أصيل ومبتكر، هو ذاك الذي يمارسه الناس في مرحلة الاغتصاب الأولى؛ يتفننون في إيراد الحكم، ويتفذلكون في وصف الواقع (ماضياً وحاضراً وآتياً)، دون أن يفرقوا بين وصف ذاتي، وتصور خيالي، واستنتاج ينبغي. كل الأمور مقررة سلفاً، وما نحتاجه في السرد هو نثر التفصيلات المنبثقة عن تأويلات سطحية لما كان عليه الإقرار من قبل.

أجهل هذا؟ ويلك يا من تتهم الفطاحل بالجهل! أم ابتزاز هو وسوء تدبير؟ الهلاك لك يا من تلقي التهم جزافاً، وتتمنطق بعهر الغير وآثار فكرهم. عليك أن تصدّق كل شيء، وتؤمّن على كل شيء، ثم تسأل ما بدا لك. لا .. لا، ليس ما بدا لك، فالنفس أمّارة بالسوء، وعليك توطينها على مسالك الخير، ولا تسأل إلا فيما يقال إن عليك أن تسأل عنه! هي أسئلة معدودات توصلك إلى خيرات ممدودات (أو توصل غيرك، لا فرق!). قلت لك: أغثنا بالحياة، ولكن لا حياة لمن تنادي!

فالمتطلبات الضرورية لمثل ذلك العزل الذي يهيء للاغتصاب سهلة جداً، بل هي ساذجة إلى حد عدم التصور بأن تكون قادرة على خداع الناس، وإيهامهم بأن حذف الروابط مجدٍ في تعلقهم بالنتائج، وتصديقهم لمراحل استنتاجها. فما يجري في المراحل الأولى من حبك اللعبة التاريخية غير موضوعي في الغالب، وغير متحرك في الأطراف؛ لكنه فاعل في تغيير مواقع أحجار الشطرنج، بل وأحياناً في تغيير قواعد اللعبة برمتها، وربما أيضاً في تقييم عناصرها، وتوزيع الأدوار عليها.

اللعبة مربكة، وهائلة في آثارها، لكنها لا تعدو إيماءة من طرف خفي، أو ابتسامة من مراقب شقي. وفي كلتا الحالتين لا يدوم للاعب سمات ثابتة، ولا تبدو له شخصية مميزة، لأنه يحترق بنور الكشف، ولا تبقى له باقية في مسار زمن اللعبة أو أسماء محترفيها. إذاً ستبقى الأرائك فارغة في كل الأحوال، وتتبدل المواقع مهما كان المآل؛ فلا الشرك قادر على اصطياد الطريدة، ولا الصياد عارف بموقع الصيد. غريبة هي اللعبة أيضاً؛ نسي من أودع مفاتحها أن يبتكر قرائن على تلك المفاتح، فلم يفقد رمزاً يفك الشفرة، ولم يرم مفتاحاً يدني كوة إلى الداخل في مسارب المياه. لكنه مع ذلك يتلذذ بذلك الضياع، وبالمتاهات التي يسلكها أصحاب المحاولات اليائسة في خضم يم متلاطم الأمواج؛ لا يكاد قعره يبين عن لون إلا زاد من ذلك اللون داكنه، ولا يظهر صوتاً إلا ترددت بعده أصوات تخفي مصدر ذلك الصوت.

يا أماه هل تدثريني، أم أدثر لاقطي الذي غص بأنواع الإشارات، دون أن تكون ذات دالٍ أو بوصلة طريق؟ قال لي قبلك حكماء مشتتون: «كل الطرق تؤدي إلى روما»، و»أهل مكة أدرى بشعابها»؛ لكني لا أرى إلا طريقاً يؤدي إلى رومات كُثُر، وأهل مكة لم يعودوا يدرون عن شيء.

هل قلبت الأرض لأهلها ظهر المجن؟ لم أعد أعرف أين ظهر المجن، لكي أعرف إن كانت قلبته، أم بقي على حاله. قالوا: ستصبح يافعاً منفتحاً على الحياة، لكن اليفاعة أصبحت ضياعاً. قالوا: ستصبح رجلاً تتنقل من غصن إلى آخر ينضح كل منها بالحياة.. لكني لا أرى حياة إلا في عروق واهنة، لم تعد تكفي مرونتها لكفايتها، دوناً عن تغذية الأغصان بحياة ناضحة!

الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 9337 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة