Culture Magazine Thursday  23/05/2013 G Issue 407
فضاءات
الخميس 13 ,رجب 1434   العدد  407
 
لماذا يستمر العالم في قراءة اعترافات جان جاك روسو؟!2-2
منال آل فهيد

 

ويصل روسو إلى الحديث الماتع عن تجربته في الكتابة الأدبية، والرسائل التي أراد أن تصل للقارئ فيشعر بمسؤولية أكبر تجاه مهنة الكتابة إذا ما التزم بها: «كنت أشعر بأن الكتابة من أجل كسب العيش، لن تلبث أن تخنق نبوغي، وأن تقتل موهبتي التي كانت في قلبي أكثر مما كانت في قلمي، والتي لم تنبعث إلا من أسلوب في التفكير راق، أشم، هو وحده القادر على تغذية تلك الموهبة» ص914. «لقد كنت أشعر دائمًا أن مكانة المؤلف لا يمكن أن تصبح مرموقة ومحترمة، إلا إذا كان التأليف بعيدًا على أن يكون حرفة.. إذ إنه من الصعب، كل الصعب، أن يفكر الإنسان تفكيرًا نبيلًا ساميًا، إذا ما كان مضطرًا إلى أن لا يفكر إلا طلبًا للرزق» ص915. ومع كثرة الكتاب الذين لا يمعنون النظر في مؤلفاتهم حتى ينشروها، يفصل روسو في الكد الذي يبذله لجعل أفكاره تبدو أكثر وضوحًا: «إن مخطوطاتي بما فيها من كشط ومحو وسطور متداخلة، وكتابة لا تكاد تقرأ لتشهد بالعناء الذي تكبدنيه، فليس بينها مالم اضطر إلى نسخه أربع أو خمس مرات قبل أن أستطيع أن أدفع به إلى المطبعة... ومن عبارتي وجملي ما ظللت أقربه وأديره في رأسي خمس أو ست ليال، قبل أن يغدو صالحًا لأن يسجل على الورق، وهنا أيضًا السر في أنني أكثر توفيقًا في أعمالي التي تتطلب جهدًا، مني في تلك التي تتطلب خفة أسلوب معينة» ص262. وهذه الكتابة الناجحة لابد أن تسبقها مهارة في كيفية القراءة: «كان الأب دي جوفون قد علمني أن أقرأ في غير إسراع، وبمزيد من التأمل، ولهذا أصبحت المطالعة أكثر فائدة لي» ص255. إن الأفكار لا تأتي حين يريدها الكاتب، الأفكار تختار الوقت الذي تريده ولو لم تكن تمسك بقلمك وورقتك حين تنهال عليك، لذا لا تعتصرها بل انتظرها: «أفتراني كنت أحمل –في رحلاتي- ورقًا وأقلامًا لو أنني قد فكرت في كل هذا لما وافاني شيء مما كان جديرًا بالتسجيل، إنني لم أتنبأ بموعد الأفكار وإنما كانت تواتيني عندما تشاء هي، وليس حين أشاء أنا!» ص370. ولا تقلق حين تسوء حالتك النفسية، فالكتابة محتاجة لمثل هذه الأجواء وهذا ما عاينه روسو: «من الأمور العجيبة أن خيالي لا يحلق قط راضيًا إلا عندما تكون حالي غير مرضية» ص389. كانت أمانته العلمية قائدًا له قبل أن يبحث عن الصيت الذائع جراء الكتابة، حين طلب منه تحويرات في أغاني مسرحية فولتير (أميرة نافار): «ولم أشأ قبل كل شيء أن أمس ألفاظ المسرحية دون موافقة المؤلف فكتبت إليه في هذا الصدد، رسالة جد أمينة ومحترمة» ص762. وينصح روسو المبتدئين الراغبين في الكتابة: «على أن فن الكتابة لا يستوعب دفعة واحدة مهما تكن المواهب التي فطر المرء عليها» ص801. وإلى ما سيواجه ممن سينشر كتاباته: «إذ إن أصحاب المكتبات الباريسية يعاملون كل مبتدئ في صلف وجفاء» ص789. ويرى روسو أن على الكاتب أن يتحلى بالمثل التي يكتبها قبل أن يطالب الناس بها: «كانت الحياة في باريس، بين أبناء قوم أدعياء محبين للمظاهر، لا تروق لي .. كان تعصب الأدباء وتحزبهم، ومنازعاتهم المخزية، وافتقارهم إلى النقاء الذي يتجلى في كتبهم، والمظهر المترفع الذي يخدعون به المجتمع» ص885.

وقد كانت دروس روسو وتأملاته في المجتمع وعالم الأصدقاء نابعة من الغربة التي أحس بها وهو يعيش في مجتمعه ويكتب لأجله: «شعرت بأن المرء إذا أراد أن يؤلف كتبًا في الصالح الحقيقي لوطنه، فليسله أن يؤلفها في هذا الوطن، اللهم إلا أن يكون موهوبًا في التآمر والدس والخداع!» ص922. «كنت أحس بالحسرة لأنني كنت أفارق أبناء جلدتي دون أن يكونوا قد شعروا بقيمتي وقدري.. دون أن يدروا كم كنت جديرًا بأن أحظى بالحب منهم، لو أنهم كانوا أكثر معرفة بي مما هم!» ص1139. إلا أن الصدام المتكرر والخيانات المفاجئة من أصدقائه جعلته ينسحب شيئًا فشيئًا في عزلة ملحوظة ليريح ويستريح: «كلما ازددت تعرفًا على المجتمع قلت قدرتي على أن أكيف نفسي وفقًا لأساليبه في الحديث» ص355. وحين تكشفت حقيقة المجتمع: «كنت محبوبًا من كل أولئك الذين عرفوني، طالما كنت أعيش مجهولًا لدى الرأي العام. فلم يكن لي عدو واحد. على أن أن اسمي لم يكد يلمع حتى أصبحت بلا أصدقاء!» ص824. وكانت الغابة متنفسه ومأوى حكمته التي تتماهى مع الطبيعة ففي نزهة له في الغابة حيث قضى فيها سبعة أيام أو ثمانية يقول: «وبالمقارنة بين الإنسان -كما صنعه الإنسان- والإنسان كما صنعته الطبيعة، كشفت له –في كماله المزعوم- عن المصدر الحقيقي لمصائبه وشقائه. وارتفعت روحي وقد انتشت بهذه التأملات فأطللت من هناك على أقراني من أبناء البشر، وهم يسيرون عميانًا في طريق الأباطيل والأوهام، وطريق أخطائهم، ومحنهم، وجرائمهم.. ورحت أصيح بصوت واهن ما كانوا ليستطيعو أن يسمعوه: «أيها الحمقى، الذين لا يكفون عن الشكوى من الطبيعة، ألا اعلموا أن كل مساوئكم منكم!» ص883. وفي فترة عزلته في جزيرة (سان بيير) بعد الضجة التي أحدثتها مؤلفاته، يرى في الطبيعة انعكاسًا لما يحس به: «اعتدت أن أذهب كل مساء، فأجلس على الشاطئ ولاسيما حين تكون البحيرة متلاطمة الأمواج .. كنت أحس بلذة فذة إذ أرى الأمواج تتكسر عند قدمي، فقد كانت تمثل لي اصطخاب الدنيا، وسكينة معقلي. وكانت هذه الفكرة تهفو بعواطفي أحيانًا، حتى أشعر بالدموع تتساقط من عيني!» ص1477. كانت فوقية مجتمع الأغنياء والحكام تؤرق التواضع الذي يطبع شخصية روسو فهو ينتقد معاملتهم مع خدمهم: «كان إذا منح خادمه عطاء، كان يلقي به على الأرض، بدلًا من أن يدسه في يده. وقصارى القول أنه كان ينسى أن الخادم إنسان، فكان يوسعه ازدراء وقسوة –في كل مناسبة- بدرجة تثير النفس»ص1063. وينتقد طريقة تفكيرهم: «إن العقول الخالية من الثقافة والنور، لا تعرف هدفًا تقدره سوى الصيت، والنفوذ والمال.. وهي بعيدة كل البعد عن أن تحدس أن المواهب جديرة بشيء من الاحترام، وأن في إهانتها عارًا يحط من أقدارهم» ص1384. وحينها أدرك روسو ألا أمل من استمرار علاقته بتلك الطبقة: «على ضوء التجارب المتواصلة، شعرت أكثر من ذي قبل، بأن كل العلاقات القائمة على غير تكافؤ أو مساواة، تكون مضرة دائمًا بالجانب الضعيف فيها، ولقد كانت معيشتي مع قوم ذوي ثراء، يمتون إلى طبقة أخرى غير التي اخترتها، دون أن أعيش على نمطهم، ومع ذلك فإنني كنت مضطرًا إلى أن أقلدهم في كثير من الأمور، وكانت النفقات النثرية –التي لا تعد شيئًا مذكورًا لديهم- عبئًا مرهقًا، بقدر ما كانت ضرورة» ص1180.

في المحور الأخير من دروس جان جاك روسو كان عن هوايته التي يحب أن يمارسها ويرجع الفضل لها في مَدِّه بالكثير من الأفكار والتأملات، فتكرر امتنان روسو لهذه الرياضة وهي دعوة للكتاب بأن يمارسوها كي ينشروا ثقافة العناية بالصحة، كما يعملون على نشر ثقافة العناية بالعقل وتحريكه بالتفكير الدائم: «في المشي شيء ينعش نشاطي ويسمو بأفكاري، وأنا لا أكاد أفكر عندما أكون ساكنًا، بل لا بد لجسمي من أن يكون في حركة حتى يتحرك عقلي» ص369. وكان يطلق التفكير في مشاريعه الكتابية فقط حين يمارس المشي: «اعتدت لعدة أشهر، أن أخرج للرياضة وحيدًا –عقب الغداء في بداية الأمر- في غابة (بولونيا) لأدير في فكري موضوعات لمؤلفاتي المقبلة. ولم أكن أعود قبل هبوط الليل!» ص885. «كانت فترة ما بعد الغداء للتريض والتجوال، مزودًا بكراسة بيضاء صغيرة وقلم من الرصاص، إذ إنني لم أستطع أن أكتب أو أن أفكر على سجيتي إطلاقًا، إلا في الهواء الطلق والفضاء» ص918. ويحلل روسو ثنائية الحركة لكل من الجسم والعقل كما لمس نتائجها بنفسه: «لا أستطيع التفكير إلا وأنا أتمشى، فما أن أقف، حتى أكف عن التفكير، فليس في وسع عقلي أن يتحرك إلا مع قدمي» ص931. وما علم روسو أن فكرة المقالة كانت مسودتها الأولى عندما كنت أمشي!

بعد هذا العرض لأبرز دروس روسو منظمة حسب الموضوعات التي تناسبها، يمكن أن نقول بأن اعترافات روسو غيرت التفكير الأوربي في الكتابة الأدبية، وكتابه العقد الاجتماعي أحدث ثورة في سياستها، أما كتابه إميل فقد وضع منهجًا تربويًا مازالت أوروبا تعمل به، وأما في الفكر والمجتمع فقد كان لمقاليه: (هل إحياء النشاط في العلوم والفنون سيؤدي إلى الإسهام في تطهير السلوك الأخلاقي؟) و (خطاب حول مصدر وأسس اللاعدالة بين الناس) المفترق الخطير لروسو في علاقته مع الأغنياء وطبقة الحكام في مجتمعه.

بقي أن أجتزئ مقطعًا أستحسنه لتماهي أحد القراء مع اعترافات روسو، خلال تصفحي لمراجعات الكتب في موقع goodreads لتجمع القراء: «أول خاطر لاح لي بعد ختم الكتاب كان أن أسرد بدوري اعترافات ذاتية لتكون مادة تدوينة جديدة، ولكم هالتني النتيجة، أبدًا لم يجل بخاطري أن قلمي سيكون بهذا العجز! دونت بعض الاعترافات ولكني لم أسجل الحقيقة كاملة ولا حتى اقتربت منها! وهذا ما زاد صنيع روسو في نظري عظمة وإجلالًا»، إنه روسو الذي قال في اعترافاته: «صممت أن أكتبها بصدق لا مثيل له، حتى يتسنى –ولو لمرة واحدة- أن يرى الناس رجلًا على حقيقته، كما يرى هو دخيلة نفسه» فهل حقًا ستكون هذه الاعترافات الوحيدة التي عرى فيها الكاتب نفسه، أم استطاع غيره أن ينافس روسو؟! وهل كتب روسو اعترافاته للتخلص من ذنوبه أم لنقل تجاربه للمجتمع والمربين؟!

روسو يقدم اعترافاته لقارئه، حتى إذا ما انتهى من قراءتها عليه أن يجيب بنفسه عن الدافع الذي لأجله دونها، وإن ألمح روسو لبعض منها في ثنايا كراساته إلا أن دور القارئ يبدأ من حيث ينتهي الكتاب.

طالبة دراسات عليا,قسم الأدب,جامعة الإمام - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة