Saturday 23/11/2013 Issue 418 السبت 19 ,محرم 1435 العدد
23/11/2013

من جماليات (المبالغة) في القرآن الكريم

يحفل القرآن الكريم في كثيرٍ من مواضعه بالمبالغة، وغنيٌّ عن القول إنَّ مفهوم هذا الفنِّ البلاغيِّ البديع في القرآن ليس بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن ابتداءً، حيث يتجاوز فيها المتكلم حدود الحقيقة والواقع ويخرج إلى الكذب والمحال قصداً للإبهار والإدهاش، بل هي تأكيدٌ للمعنى وتقويةٌ له، جاءت لتزيده روعةً وجمالا، فليس في مبالغة القرآن أيُّ كذبٍ أو مُغالاة، بل هي مُحكمة النسج، تُؤدِّي دورها في خدمة المعنى على أتمِّ وجهٍ وأكمله، وكما أنها تخدم المعنى فهي تخدم اللفظ وتُؤدِّي دورها في تزيينه وتجميله.

وفي هذه الأسطر سأتوقف عند آيتين من آيات الذكر الحكيم التي يصور فيها المولى عز وجل عذاب أحد أكبر أعداء الدعوة، وأكثر المؤذين لرسولها الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو أبو جهل عليه من الله ما يستحق، ساعياً إلى استكناه جماليات أسلوب القرآن الكريم في هذا الوصف، وكيفية استثماره لهذا الفن في رسم صورة العذاب التي ينالها هذا الصنديد المشرك يوم القيامة.

يقول المولى عز وجل: (لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة)، حيث بعد أن ذكر الله تعالى قصة أبي جهلٍ مع الرسول صلى الله عليه وسلم وموقفه منه في بداية الدعوة الإسلامية حينما كان يعاديه أشدَّ العداوة، بل يؤذيه ويمنعه من الصلاة، جاء التهديد والوعيد في هذا المشهد المرعب في حال استمرَّ هذا المجرم الأثيم على حاله وموقفه المشين.

وقد اُفتتح هذا المشهد بأداة الزجر والردع (كلا) لهذا الكافر الصنديد عن فعلته المشينة، وأتبع ذلك بالإقسام تأكيداً على تحقُّق وقوع العذاب بالسفع لهذا الناهي الطاغي إن استمرَّ على فعله وأصرَّ على موقفه، والسفع هو الأخذ والجذب والقبض، أما الناصية فهي شعر الجبهة، وتُطلق على مكان الشعر، والمقصود: لنأخذنَّ بناصيته ولنسحبنَّه بها إلى النار.

ثم وصف المولى عز وجل ناصية هذا الصنديد بأنها كاذبةٌ خاطئة، وفي هذا الوصف تعليلٌ لسبب العذاب؛ حيث كان صاحب هذه الناصية كاذباً على الله سبحانه وتعالى حين أنه ادَّعى أنه لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وكاذباً على رسوله في أنه ساحرٌ كذَّابٌ أو ليس بنبي، وما هذا الموقف القبيح الذي حكته الآيات السابقة إلا مظهرٌ من مظاهر كذبه وخطئه.

وتتَّضح جماليات المبالغة في هذا المشهد الذي يفيض تهديداً ووعيداً في عدد من المظاهر يمكن إجمالها في النقاط الآتية:

1- المبالغة في تأكيد هذا العذاب وتقريره لهذا العدوِّ اللدود يوم القيامة، ويتَّضح هذا في حشد المؤكِّدات لثبوت هذا العذاب ووقوعه، من ذلك التصدير بـ(كلا)، وهي تفيد تأكيد الردع والزجر، وتوحي في هذا السياق بعظيم العقاب الآتي، كما أنَّ هذا الزجر تأكيدٌ للردع الأول الذي جاء في أول السورة في قوله تعالى: (كلا إنَّ الإنسان ليطغى)، ومن ذلك القسم في قوله: (لئن لم ينته) فاللام هنا مُوطِّئةٌ للقسم، وجملة: (لنسفعا) جواب القسم، وأما جواب الشرط فمحذوفٌ دلَّ عليه جواب القسم.

ومنها الباء المزيدة في قوله: (بالناصية)، وهي الداخلة على المفعول به لتأكيد اللصوق، ومنها نون التأكيد الخفيفة التي يكثر دخولها في القسم المثبت في قوله: (لنسفعا)، كلُّ هذه المؤكِّدات تُفصح عن تقرير هذا العذاب الأليم وثبوته لفرعون هذه الأمة بما لا يدع مجالاً للشكِّ أو الارتياب.

2- وفي تصوير القرآن الكريم لعذاب أبي جهلٍ بهذه الصورة مبالغةٌ في إذلاله والتحقير من شأنه قبل أن يذوق العذاب الأليم، فقد كان من المعروف عند العرب أنهم كانوا إذا أرادوا إذلال إنسان أو عقابه سحبوه من شعر رأسه، فالسفع بالناصية غاية الإذلال عندهم؛ إذ لا يكون إلا مع مزيد التمكُّن والاستيلاء، يقول البقاعي: «والعرب لا تأنف من شيءٍ أنفتهم من أخذ الناصية، وإذا انتُهكت حُرمة الأشرف فما بالك بغيره؟».ولعلَّ أبا جهلٍ كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها، وربما كان يهتمُّ أيضاً بتسويدها، فأخبر الله جل وعلا أنه يُسوَّدها مع الوجه، ولا يخفى ما في هذا من المبالغة في الاستهزاء والإذلال والتحقير.

3- لم يذكر القرآن الكريم الجهة التي ستُسفع إليها ناصية هذا الطاغية، وذلك مبالغةً في ظهورها ووضوحها، ومَن يرى أعمال هذا المجرم ويسمع عن أفعاله وموقفه من دعوة الإسلام وكيفية معاملته لرسول الأمة صلى الله عليه وسلم سيعلم لا محالة بأنَّ النار هي المثوى الأخير لهذه الناصية وصاحبها، ثم إنَّ مَن صار في القبضة على هذه الهيئة المزرية فهو هالك، ومعلومٌ أنَّ مصيره إلى النار.

4- وقد جاء التعريف في قوله: (بالناصية) للعهد التقريري، أي بناصيته، أي ناصية الذي ينهى عبداً إذا صلَّى، وفي هذا مبالغةٌ في تحديده وتخصيصه لكي تتوجَّه إليه الأنظار ويعتبر به كل من يحارب الله ورسوله، كما أنَّ في ترديد (ناصية) مزيد تأكيدٍ وفضل تقريرٍ على ثبوت هذه ال صورة القبيحة المهينة التي تنتظر هذا المجرم الأثيم يوم القيامة، «ولم يقتصر على إحدى الجملتين لأنَّ ذكر الأولى للتنصيص على أنها ناصية الناهي، والثانية لتُوصف بما يدلُّ على علَّة السفع وشموله لكلِّ من وُجد فيه ذلك».

5- وصف القرآن الكريم ناصية هذا الطاغية بالكذب والخطأ، وذلك من قبيل الإسناد المجازي، فهو من المجاز المرسل من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، وفي هذا التعبير من الجزالة والحسن ما ليس في قولك: ناصية كاذبٍ خاطئ، وفي هذا التركيب مبالغةٌ بديعة، فكأنَّ هذا الكافر الصنديد قد بلغ في الكذب والخطأ مبلغاً عظيماً حتى ظهر على ناصيته.

ثم إنَّ وصف الناصية بالكذب والخطأ مع أنَّ ذلك صفةٌ لصاحبها فيه مبالغةٌ في شدَّة كذبه وكثرة خطئه؛ حيث إنَّ هذا التركيب يدلُّ على وصفه بالكذب والخطأ من باب أولى، كما أنَّ ذلك يُفيد أنه لشدَّة كذبه وخطئه كأنَّ كلَّ جزءٍ من أجزائه يكذب ويخطئ، ومما زاد في جمال هذا التركيب المجازي أنَّ فيه تخييلاً بأنَّ الكذب والخطأ باديان من ناصيته، فكانت الناصية جديرةً بالسفع.

6- وهذه المبالغات والتأكيدات تنسجم مع موضوع السورة وجوِّها العام، فمنذ المطلع والقرآن الكريم يبالغ في الحثِّ على القراءة ويؤكِّد ثبوت نعم المولى عز وجل على هذا الإنسان الضعيف بذكر مظاهر من آلائه العظيمة عليه، ولكن هذا الإنسان يجحد ويتكبَّر ويبالغ في الطغيان حينما يتوهَّم أنه استغنى عن ربه، ثم تصوِّر السورة الكريمة نموذجاً من نماذج هذا الإنسان الطاغي وهو أبو جهل، وتصف مبالغته في عناده ومحاربته لله ورسوله، فلا غرو أن تأتي هذه الآيات متَّسقةً مع هذا الجوِّ لتُقرِّر ثبوت العذاب له وتبالغ في تصوير إهانته وذلِّه.

ولا ينبغي أن أتجاوز هذه الآيات دون أن أشير إلى الإيقاع الجميل الذي أسهمت المبالغة في تشكيله، وهو إيقاعٌ جديدٌ متميِّزٌ عن بقية إيقاع السورة، ولعلَّ هذا مما يلفت نظر المتلقِّي ويشدُّ انتباهه لهذه النتيجة الرهيبة بعد أن تابع في الآيات السابقة موقف هذا اللعين بإيقاعٍ متَّحد، كما أنَّ تميُّز هذا الإيقاع يوحي بتفرُّد النتيجة وخصوصيتها بما يشي بشدَّة تصويرها وهول العاقبة التي تنتظر هذا الصنديد المجرم.

هذه بعض الملامح البلاغية والجماليات البيانية التي حفلت بها آيتان كريمتان من كتاب الله سبحانه وتعالى، حيث رأى فيها المتأمل روعة الإعجاز البلاغي وعظمة التعبير البياني، وكيف أنَّ القرآن الكريم لم يتنازل عن ذلك المستوى المعجز لهذا الوحي الإلهي الذي كان يسير وفقه في آياته وسوره جميعها، حتى وهو في سياق غضب وانتقام، ووصفٍ لأبشع صور العذاب وأذله وأحقره، وكيف أنه جمع بين روعة الأسلوب ودقة الوصف وعظمة التأثير وشدة الخوف والترهيب، فسبحانه من كلام معجز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

- الرياض Omar 1401@gmail.com