Saturday 23/11/2013 Issue 418 السبت 19 ,محرم 1435 العدد

ذاكرة على باب مقهى

-1-

للقهوة حضور كبير في التجربة الإبداعية العربية، يمكن أن نتلمّسه في عدد من قصائد الشعر الحديث، من مثل قصيدتي: «أغنية» و»كان ماسوف يكون» لمحمود درويش، وقصيدتي: «ربما» و»سبتمبر»» لنزار قباني، وقصيدة «قهوة بالنعناع» لجمال مرسي، إلى غيرها من القصائد التي تتجلى فيها القهوة كاتبةً ومكتوباً عنها، وقادرة على التعبير عن هواجس الذات، وانكسارات القيم، وعجز الأشياء، وربما سلك الأدباء مسالك متعددة في استثمار لون القهوة وطعمها ورائحتها وصوتِ أمواجها فوق النار وتحتها لصالح التعبير عن الصدمة التي تكبر أمام أعينهم يوما بعد يوم..!

وقد اهتمت السير (والشهادات) الشعرية بشأن هذه العلاقة، وحاولت رصد وجوهها، والوصول إلى نقاط عميقة فيها، وأحسب أن محمود درويش كان أكثر الأدباء جرأة في التعبير عن هذه العلاقة بسؤاله المتعالي: «كيف تبدع يدٌ لا تصنع القهوة؟».

وللقهوة - أيضاً - حضور كبير في الإبداع السردي، فهي جزء مهم في صورة (الانتظار)، ومكون رئيس لصورة المشهد الحواري، ومفتاح فاعل لحالات (الاسترجاع)، و(الاستباق)، و(الحوار الداخلي)...،وقد ترتقي - في بعض الأعمال - لتكون جزءا منتجا لدلالة ما، ففي رواية «هند والعسكر» للروائية السعودية بدرية البشر ترد كلمة القهوة أكثرَ من أربع وخمسين مرة، وفي كل مرة تكبر ويكبر معها المعنى، نقرأ: «معظم حكايات هذا البيت نسجت في جلسات قهوة، يتخلص شاربوها من قيود الوعي الصارم... تاريخ نساء هذا البيت ولد من حكايةٍ، ولدت في فناجين القهوة، كل منهن لها حكاية في قلب فنجان، كل واحدة منهن خرجت من رحم حبة هيل طويلة، أودعت فيها حكاياتها...».

وتمضي الرواية في بناء القواسم المشتركة بين المجتمع السعودي المحافظ والقهوة، وتستثمر في هذا السياق (على طريقة الشعراء) لونَ القهوة وطعمها (اللون القاتم / الطعم المرّ)، لتتجلى القهوة - في متواليات السرد - رمزا للقيد والحرية، للواقع الصاقع والأمل المنفي..، نقرأ في المقطع الأخير من الرواية:

«أقبلت المضيفة وسألتني: «قهوة؟» فابتسمتُ وعيناي تدمعان، وهززت رأسي.. شربت الجرعة الأولى في الدقيقة الأولى وفي السماء الأولى من فنجان قهوتي الأول، وصوت محمد عبده يغني في أذني: «كفها فلة جديلة من حروف...»!

-2-

كان حضور (القهوة) سبباً لاستدعاء (المقهى) في الأدب الحديث، بوصفه فضاء لصوتها ولونها ورائحتها وطعمها، وفضاء لانتظار القهوة وما يمكن أن يشفّ عنه هذا الانتظار من دلالات، فكانت قصيدة «مقهى»، لمحمود درويش، و»في المقهى» لجمال مرسي، و«في المقهى» لنزار قباني، و«الأفّاق» لعبدالوهاب البياتي، و«مقهى للبكاء» لقمر الجاسم، و«الحب في المقهى» لعاطف الجندي، وقصائد لا حد لها..

وقد عد بعض الشعراء المقهى مستودع أسرارهم (كما في إحدى قصائد محمد الرباوي)، وعدّه بعضهم أكاديمية للعشق، إذ شهدوا على طاولاته ولادة حبهم الأول (كما في حالة الحب التي شهدها مقهى الريش بين أمل دنقل وعبلة الرويني)، وخطّوا في زواياه توقهم إلى مستقبل أجمل وأجلّ، وعبّروا عن ذلك كله بنصوص أدبية وأعمال فنية (غنائية ومسرحية)، وربما انقسمت مقاهي المدينة الحيّة بين تيارات فكرية أو أدبية أو نقدية مختلفة كما نجد في بغداد على سبيل المثال، وربما كانت نقطة التجمع الأولى باتجاه مشروع سياسي كبير.

ولذلك يمكن أن نقول إن المثقفين الرواد في عالمنا العربي ولدوا - ثقافيا - على كرسي مقهى، ورسموا الإطار العام لأعمالهم الرائدة على ذلك الكرسي...، ويمكن أن أشير هنا - على سبيل المثال - إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وأمل دنقل وثروت أباظة وعلاقتهم بمقهى ريش المطلّ على ميدان التحرير، ويمكن أن أشير كذلك إلى مقاهي مماثلة استمدت طاقتها من أدباء آخرين كمقاهي: (الفيشاوي)، و(البستان)، و(الندوة الثقافية) في القاهرة، و(البرازيلية) و(الزهاوي) في بغداد..

-3-

شهد مطلع الألفية الثالثة محاولات خليجية متعدّدة لاستعادة رمزية المقهى، قام بها مثقفون ومستثمرون، وربما ساعد على نجاح كثير من هذه المحاولات ما شهدته السنوات العشر الأخيرة من أحداث ألقت بظلالها على المجتمعات الخليجية، ودفعت أهلها إلى حوارات مستمرة حول الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فجدّ كثير من الشباب في عقد اجتماعاتهم في المقاهي، وأعرف عددا لا بأس به من الأكاديميين والأدباء والنقاد خلعوا العباءة الرسمية التي كانت تعرقل مشيتهم، ودخلوا هذا العالم الحيّ، وبمجرد دخولهم سقطت المفاهيم الزائفة التي كانت تقيّد حركتهم من قبل.

في السعودية - على سبيل المثال - استطاع بعض المثقفين / المستثمرين إنشاء أكثر من مشروع لخدمة هذا التوجه، فكان مقهى (البوك كافيه) في جدة الذي يضم عدداً كبيراً من الكتب والدوريات والمخطوطات، ومقهى (أندلسية) للإعلامي أحمد الشقيري، الذي أنشئ ليكون ملتقى ثقافيا مفتوحا، وربما فاق هذا المقهى غيره باسمه وتصميمه، وبتوجهه إلى عقد لقاءات دورية مع عدد من المثقفين الكبار .

وفي الرياض افتتح المستثمر نايف الزريق مقهى (بوك تشينو)، وفي المدينة المنورة أنشأت خلود السوسي (مقهى صبايا) ليكون أول مقهى ثقافي مخصّص للنساء في المنطقة .

وعلى مستوى دول الخليج أسس الإماراتي جمال شحي في مطلع هذا العام مقهى «كتاب كافيه»، وجعله مخصصاً للقراءة والحوارات الخاصة واللقاءات وورش العمل، وربما تميز عن المقاهي السابقة بالقاعة الملحقة، التي تمكِّن من عقد الكثير الأنشطة الثقافية، وللمقهى حساب على (تويتر) تُعرضُ فيه جداول الأنشطة التي ينفذها أو يضيّفها.

-4-

إننا أمام مشروع ثقافي مهم، وعلى المفكرين والمثقفين والأدباء مهمة دعمه ومساندته، وليس هناك دعم أكبر من زيارة هذه المقاهي، والمشاركة في أنشطتها، والكتابة عنها، وأكاد أجزم بأن مشاركة المثقف في مثل هذه المشاريع ستساعده على تجاوز حالة العزلة التي يتقلب فيها باختياره، أو بسبب تعوّده على النشاط الثقافي المعزول في قاعات حكومية أو فنادق فاخرة...، كما ستساعده أيضاً على الاقتراب من الناس، وفهم قضاياهم ورؤاهم...!

ومن أهم صور الدعم أنْ تندمج المؤسسات الثقافية الرسمية في هذا المشروع، وتبادر إلى عقد شراكة جادة معه، تفضي إلى خدمة الطرفين .

خالد الرفاعي - الرياض @alrafai