Culture Magazine Thursday  25/04/2013 G Issue 404
أوراق
الخميس 15 ,جمادى الآخر 1434   العدد  404
 
الموازنة بين القيم الإعلامية والفكرية والقيم الإعلانية
إبراهيم بن عبدالرحمن التركي

 

يروى عن الخليفة المأمون أنه تحاور مع أرسطو في منامه فسأله عن الحَسَن قال: ما حسُن في العقل، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسُن في العرف، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم.

>> يقودنا مفتتحُ الورقة إلى التساؤل عن المقصود بالقيم بوصفها معطىً اجتماعيًا متغيرًا وفق البيئات والثقافات والمرتكزات الدينية والفكرية والاحتياجات النفسية والذاتية، والباحثون فيها يعلمون صعوبة المصطلح تعريفًا وتحديدًا وأطرًا مرسومة يمكن الاستهداءُ بها لوضع عبارات جامعة مانعة، وقد جاء عنوان المحور مثلاً على الاختلاف القِيْمي بين ما يراه الإعلام وما يأذن به الفكر وما يطلبه الإعلان، بل ربما تناقضت هذه القيم أو تناقصت أو تبدلت بين أمسٍ وغد وبين والدٍ وولد.

>> وإذا كان المأمون قد حسم تراتبية «الحسن» فيما يراه «العقل» ثم «العرف» ثم «الجمهور» فقد أضاف مشكلاً جديدًا؛ إذ لو كانت القيم فرديةً لسهل الأمر؛ فكلٌ أدرى بمدركات عقله ومتطلبات أعرافه واقتناعات بني أبيه، ولكن ماذا عن القيم الجمعية؟ فأيُّ عقلٍ يحكمها؟ وأي عرفٍ تحتكم إليه؟ وأي جماهير يتوجه إليها؟ وبذا تبقى دائرةُ القيم واسعةً يصعب تناولُها بتفكيرٍ مطلق كما يتعذر تداولها برؤى مقيدة.

>> هل الخللُ في عنوان المحور؟ بالتأكيد: لا، لكنا مجبرون على التسليم بصعوبة وضع معايير للموازنة بين القيم الثلاث (الإعلامية والفكرية والإعلانية) ولو خلا المحور من القيم الفكرية لربما هان الأمر؛ فبين الإعلام والإعلان قيمٌ ماديةٌ مشتركة في حين تغيبُ القيم الأخلاقية عن أن تكون مشتركًا محسومًا أمرُه بين مبدئية الفكر من جانب ومتغير الإعلام ومردود الإعلان، ولنأخذ مثلاً إعلانات التهاني والتعازي؛ ففي حين قد يصنفها الفكر نفاقًا اجتماعيًا أو وجاهيةً فارغةً بهدفٍ ودون هدف فإن الإعلام يقودها مثلما الإعلان ينقاد إليها فاجتمع طرفان حول القيمة واختلف معهما الثالث.

>> ولنأخذ مثلاً آخر في إعلانات «مزاين الإبل» التي يرفضها الفكر بحسمٍ لتأثيرها السلبي على قضية الوحدة الوطنية ويقف الإعلام متوسطًا في المساحة الرمادية بين الموافقة والإنكار في حين لا يمكن للإعلان أن يرفض وفق مبرراته القيمية المادية، وبخاصةٍ أنها تأخذ مظلةً شرعية أي أنه يزاول فعلاً براغماتيًا نفعيًا هدفه إبقاء المؤسسة غير الرسمية نابضةً بالحياة، وغني عن القول إن الإعلان وحده هو مصدر الدخل الرئيس «المباشر وغير المباشر» للصحف ذات الثمن شراءً واشتراكات كما للصحف المجانية التي توزع في المنازل مقتصرةً على الإعلانات، ورفضُها ضيقٌ في الرؤية الإدارية من جانب أقسام التسويق قد يفضي بها إلى الرحيل.

>> ويجيئ مثلٌ أوضح من هذين في المستحضرات الطبية الدوائية والعشبية التي تكثر في صحافة التوزيع المجاني وتتنازعها القيم بشكل أوضح؛»فالفكرية» هنا محايدة إذ لا يمكن الجزم بصحة الإعلان أو زيفه حتى يتم التأكد منه عبر توضيح رسمي من الهيئات المخولة، مثلما «الإعلامية» غير معنيةٍ كثيرًا به ما دام خاضعًا للضوابط الأخلاقية المرعية بالصورة كما بالكلمة، والقيم «الإعلانية» تطلبه بشكل ملح لمقروئيته العالية ومردوده الكبير، وهنا وضعت وزارة الصحة ضوابط له تتمثل في اللائحة التنفيذية لنظام المنشآت والمستحضرات الصيدلانية (وفق دراسة أعدها مجموعة من الشباب السعودي مشروعَ تخرج لهم في كلية الدعوة والإعلام وطبقوه على صحيفة الوسيلة) وفيها ما يلي:

>> يخضع الإعلان عن المستحضرات الصيدلانية والعشبية في أجهزة الإعلام للضوابط التي تحددها اللائحة (36-1-ل).

>> يجب أن تكون نصوص البيانات والنشرات والإعلانات الخاصة بالمستحضرات الصيدلانية والعشبية متفقةً مع ما تحتويه من مواد وخواص علاجيةٍ وفق ما هو محدد في النشرة الخاصة بالمستحضر أو ملخص خواص المستحضر وأن تكون متفقةً مع عادات وقيم المجتمع.

>> يسمح بالإعلان عن المستحضرات الصيدلانية والعشبية التي يسمح النظام بصرفها بدون وصفة طبية في وسائل الإعلان المختلفة وفق ما يلي:

أ‌- أن يتفق محتوى الإعلان مع ما ورد في المادة (36-1-ل).

ب- يجب الحصول على موافقة الوزارة على نصوص البيانات والنشرات والإعلانات ووسائلها قبل النشر للتأكد من أنها تتفق مع ما تحتويه المستحضرات الصيدلانية والعشبية من مواد وخواص علاجية -» ا.هـ

وهنا رؤية حاسمة في المعيارية المعتمدة التي يمكن التحاكم إليها في هذا النمط من الإعلانات؛ ما يلغي التعارض بين الثلاثية القيمية في المدى الظاهر على الأقل.

>> وفي المحصلة يطل تساؤل مهم: فأين الحقيقة بينها؟ الظن أنها مجزأةٌ بين الثلاثة ويصعب الاتفاق فيها بين ما يمكن نشره وما لا يمكن لتعارض المصالح (conflict of interest)، وربما كنا من أقل البيئات إشكالا في هذا الأمر لالتزام الإعلام والإعلان بقيم المجتمع الفكرية «الدينية والعرفية» في منع إعلانات الدخان والمشروبات الضارة والإغراء النسوي والمعالِجات الجنسية وما في حكمها وهي مورد إعلاني كبير لو لم تتفق القيم الثلاثية على تقديم المبادئ الفكرية والعرفية على المصالح المادية، وهو ما لا يتوافر في بيئات قريبة منا بل وفي وسائط نمتلكها وتصدر أو تبث من خارجنا.

اللغة والإعلان:

>> أين اللغة هنا؟ ليس في المنظور القيمي الثلاثي ما يثبت وجودَ اختلافات بين الإعلام والفكر والإعلان في بلادنا تحديدًا وضمن وسائطنا الصادرة من الداخل؛ فالأغلبُ الأعمُّ هو الالتزام باللغة العربية الفصحى التي لا تخلو من تصحيف ولحن يسيرين لا يتداخل فيه قسم التصحيح غالبًا إذ تأتي الإعلانات مصممةً في معظمها من شركات ومؤسسات مختصة؛ فتُنشر أو تُبث كما هي «وأحيانًا بأخطائها» التي تتكرر في كل الصحف التي ينشر فيها الإعلان أو يبث منها، ومع التزام الصحف بالإعلانات عبر اللغة الفصحى أو اللغة الثالثة على الأرجح ونأيها عن العامية فإن الوسائط المسموعةَ والمرئية لا تتقيد بذلك وتعتمد اللغة المحكية بصورةٍ أكبر، وربما امتزجت فيها لهجاتٌ عربيةٌ مجاورةٌ كي يجد الإعلان قبولا.

ومن المهم الإشارة إلى أن الإعلان المهني المحترف يقلل توظيف الكلمات ويركز مقابل ذلك على الصورة وهو ما يقلل حجمَ الأخطاء اللغوية والنحوية التي تتكاثر مع تكثيف المنحى الكتابي.

تجربة الجزيرة:

تجمع مؤسسة الجزيرة بين الأسلوبين التحريريين في الصحافة ذات السعر (جريدة الجزيرة) والمجانية (الإعلانية) التي توزع مع الجريدة، وفي كلا التجربتين فإن إدارة الجزيرة تعتمد عددًا من المحددات المهمة الممثلة لمنهج الجريدة (وفق رأي مدير إدارة التسويق في إجابة عن تساؤل معد الورقة 8-4-2013م ) كما يلي:

>> ضمان عدم ورود ما يخل بالثوابت الدينية والثقافية والأعراف المرعية وعدم مخالفته الأنظمة المطبقة في المملكة وكذلك الإساءة لعلاقات المملكة بالدول الأخرى.

>> تدقيق الإعلانات لضمان عدم الإساءة للأفراد أو الأعيان أو فئةٍ من فئات المجتمع أو منطقة من مناطق المملكة.

>> التدقيق في المفردات التي قد تفسر على أكثر من وجه أو تحتمل أكثر من معنى وبخاصة مع تعدد اللهجات وبالتالي قد تسيء دينيًا أو اجتماعيًا.

>> التدقيق في القصائد الفصيحة وكذا المكتوبة باللهجة العامية وإجازتها من حيث الوزن والقافية والمضمون وخصوصًا أن بعضها لا يخلو من غمز أو لمز أو مفاخرة مقيتةٍ أو مدحٍ مبالغٍ فيه.

>> التدقيق في المناصب الرسمية الواردة في الإعلانات لضمان دقتها وصحتها.

>> التدقيق في إعلانات الأعيان والقبائل لضمان عدم ورود ادعاءات بمناصب قبلية أو ادعاء تبعية لقبيلة بشكل غير صحيح.

>> تصحيح جميع الإعلانات التي تصمم في الجزيرة لغويًا قبل نشرها.

>> استخدام اللغة الفصحى قدر الإمكان في الإعلانات المصممة داخلياً.

>> الميل إلى الاختصار والمباشرة مع استخدام مفردات جميلة وأصيلة في إعلانات التهاني والتعازي.

خاتمة:

من خلال نظرةٍ شموليةٍ لواقع الإعلان في الجزيرة فإن مضمونه يسعى للمواءمة بين القيم الثلاث بحيث يبدو التعارض في أدنى مستوياته وفق المعايير التي شرحها مسؤول الإعلان في المؤسسة، كما أنه يحافظ على الحد المقبول من فصاحة اللغة وسلامتها النحوية والإملائية دون أن يعني ذلك عدم وجود أخطاءٍ يمكن حصرها في النسبة المعقولة والمقبولة، وبخاصةٍ فيما يقوم إخصائيو الجريدة بتصميمه وتصحيحه، أما المصممة خارجيًا فإنها تعتمد على الحساسية اللغوية العالية إذا توافرات لدى المعلن من جانب وشركة التصميم من جانب آخر. كما تعم اللغة الفصحى في معظم الإعلانات ونادرًا ما تصاغ بالعامية لعدم جدواها التسويقية في النصوص المكتوبة، بينما يتيح النظام الذي اختطته الجريدة وفق المعايير السابقة بقبول الإعلان العامي بحذر وبعدد محدود والتفاوض مع المعلنين لتفصيحه، وهو ما يجعل حجمها قليلا لا يكاد يذكر.

* * *

ورقة قدمت لحلقة نقاش (اللغة العربية والإعلان)

مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية

12-13-06-1434هـ (22-23-04-2013م)

كاتب وباحث ومدير التحرير للشؤون الثقافية - صحيفة الجزيرة

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6745 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة