Culture Magazine Thursday  25/04/2013 G Issue 404
فضاءات
الخميس 15 ,جمادى الآخر 1434   العدد  404
 
الوثنية الجديدة-1
متى تصبح الحقيقة وثناً؟
سهام القحطاني

 

قلت قبل ذلك إن الحقيقة هي التي تمثل المرئي مما نعتقده، فالحقيقة هي العين التي تمثل لنا ما نعتقده، وليست هي عين الله في الأرض كما يريد البعض أن يُوهمنا بذلك لكي يُشرعوا لأنفسهم ملكيتهم للحقيقة باسم الله وتحت مظلته وذلك أحسبه «كفرا أوسطا».

نستمد الحقيقة من خلال مصادر جاهزة التوثيق هي الديني والتاريخي والعلمي والتجربة، ونلاحظ أن تلك المصادر تتصف بالتغير والتغيير مما يجعل الحقيقة مضبوطة بحد افتراضي، ينتهي ذلك الحد بظهور ما يثبت عدم صلاحيتها.

وفي إحدى مقالات الموسم الماضي فرقت بين «الدين والديني»، فالديني هو مجموع الطرائق التي نصوغها للتعبير عن الدين أو ممارسته.

ويُعرف انتهاء صلاحية الحقيقة بعدة مؤشرات وقبل ذكر تلك المؤشرات لابد أن نفتش داخل سؤالين هما، ما المقصود بالحقيقة؟ وما أهميتها؟

وأنا لا أقصد إيقاع نفسي بقصد في فخ متاهة المصطلح لكن بعض الأمور تتطلب منا الوقوع الاختياري في المتاهة لإيجاد الطريق للخروج إلى الضوء.

يمكن أن نعبر عن مقصود الحقيقة بأنه «الإعلان الرسمي لقبول ناتج فكرة أو مجموعة من الأفكار».

والناتج لا يتحول إلى حقيقة إلا عبر «الإعلان والقبول الرسميان له»، كما يمكن اعتبار الحقيقة من حيث الفاعلية بأنها «المؤثر الحافز على تحقيق قرار ومنجز»، أو ما أسميه «مدى جاذبية الحقيقة»؛ أي مدى مقاربتها لجدية وجادة الواقع الطبيعي.

وليس كل ناتج فكرة يمكن أن يتحول إلى «حقيقة»، فالنواتج التي تصبح حقيقة لابد أن تتصف بعدة شروط منها؛ المصداقية والثبات والإضافة ومنطقية الاطراد ومعقولية تحقيق القرار والإنجاز، وحصول اتفاق جمعي ويرتبط حصول الاتفاق على ناتج الفكرة بثلاثة أمور هي الأهمية والعلمية والمعقولية.

و تلك الأمور هي التي تمنح الحقيقة قدرتها على التحول إلى مصدر القانون.

وعلى المستوى الإجرائي لا بد لناتج الفكرة حتى يتحول إلى حقيقة إضافة إلى الشروط السابقة إمكانية الناتج على تحقيق الإجرائية؛ أي التحول إلى نص وإنتاج طريقة بشرط ابتعاد نصيتها عن تحويلها إلى سلعة ترويجية.

كما أن تلك الإجرائية هي التي تشجع الاتفاق الجمعي على قبولها وإعلانها رسميا.

فالحقيقة كنص يجب أن لا تروج لأي اصطفاف أو تمذهب أو تعنصر أو تشجع عليهم، لأن قيمتها الإنسانية في كونها «ناتج فكري محايد»، ومتى ما شمل ناتج الفكرة تلك التحيّزات تحول إلى «رأي ورؤية» بدلا من حقيقة.

وقد يرى البعض أن الرأي والرؤية هما طوران من أطوار «تخلّق الحقيقة» وأن علينا أن نستخف بدورهما في «خلق الحقيقة».

وهذه النقطة تعرض أمامنا مسألة؛ نوعية ناتج الفكرة التي تتحول إلى حقيقة، والأقرب لِما سأقوله يتعلق بوظيفة ناتج الفكرة لا نوعه.

وهي إجابة السؤال الثاني ما أهمية الحقيقة؟

تتشكل أهمية الحقيقة من خلال وظائفها الأربعة وهي وظيفة الارتقاء، وظيفة الإرشاد، ووظيفة التطوير ووظيفة التعديل.

وهي وظائف لا يشترط وجودها معا،فهناك حقيقة تقوم بوظيفة الارتقاء فقط وهناك حقيقة تقوم بوظيفة الإرشاد فقط وهكذا.

وتجاوز ناتج الفكرة تلك الشروط لا يحوله إلى حقيقة.

قد يفهم البعض من خصائص فاعلية الحقيقة التي ذكرتها سابقا أنها من الممكن أن تُصبح معادلا للتشريع؟.

الأمر الثابت الذي نعرفه جميعا أن التشريعات تؤسس وفق نتائج الأفكار المستديمة.

والاستدامة ليست طبيعة الحقيقة، وبالتالي نستنتج بأن الناتج المستديم لا يدخل ضمن ما تُسمى «حقيقة».

وبذلك لا يمكن القول إن التشريعات تؤسس وفق الحقيقة، ولكن هذه القاعدة لا تمنع من القول إن هناك قوانين اُستصدرت وفق بعض الحقائق.

وعلاقة الاستدامة بالحقيقة هي غالبا التي تشكل أزمة «التوثين» بين أنصار الحقيقة ومعارضيها.

ويمكن تقسيم معارضي الحقيقة إلى ثلاثة أقسام؛ المُشكك في قيمتها، والمطالِب بتطويرها والقسم الثالث هو المطالِب بوضع «حد افتراضي لصلاحيتها».

والفرق بين أصحاب القسم الثاني والثالث، أن أصحاب القسم الثاني يذهبون إلى أن حدّ الحقيقة مستمر الصلاحية وهذا الاستمرار هو الذي يؤهلها لقدرة التطوير، في حين أن أصحاب القسم الثالث يذهبون إلى أن وضع حد لصلاحية الحقيقة يُتيح نمو حقيقة جديدة،وبذلك نحن أمام رأيان؛ رأي يدعم «تطوير الحقيقة القديمة» ورأي يدعم «تقاعد الحقيقة القديمة» لإتاحة تخلّق الحقيقة الجديدة.

وربط الحقيقة بالاستدامة يُورث «الكفر الفكري» ورفض التغير والتغيير.

وقد نبه النص القرآني إلى هذه المسالة؛ أي حصول الكفر العقدي والفكري بسب الربط بين الاستدامة والحقيقة عندما قصّ لنا قصص الأمم الغابرة قال تعالى في كتابه الكريم:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (170) سورة البقرة

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} (78) سورة يونس

{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (22) سورة الزخرف

{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (23) سورة الزخرف

{قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (36) سورة القصص

والقرآن الكريم يوضح لنا ثلاثة أمور هي التي شكلت مصدر «وهم استدامة الحقيقة» أو «الوثنية القديمة» وهي؛ «أبوية الحقيقة العقدية»، وأحادية التكرار، وارتباط الحقيقة بحصول نفعية، ولذلك غالبا من يحارب تجديد الحقيقة هم أصحاب السلطة.

وهي بدورها مؤشرات يُعرف من خلالها انتهاء صلاحية الحقيقة الفكرية.

والتي يمكن تلخيصها في أربعة مؤشرات هي؛ مؤشرات منها عدم التكافؤ النهضوي بين الحقيقة وطريقة حياة الفرد والمجتمع؛ أي عدم مواكبتها للعامل النهضوي، عدم اتفاقها مع نتائج الأفكار المكتشفة، فقدانها القدرة على تقديم توصيفات وتعليلات للأسئلة التجديدية، وأخيرا محاربتها لتوليد حقيقة جديدة.

فالحقيقة في ذاتها كائن معرفي قابل للتطور والتطوير والتعديل والتوليد والإنتاج، وهي كغيرها من الديناميكيات تظل تسير في خطية مالم تتعرض لعوامل جديدة لتغير مسارها.

ومتى ما تخلت الحقيقة عن روحها الثوري للتطور والتطوير ومشاركتها للفاعلية الاقتضائية أصبحت وثنا تتحجر الأفكار من خلالها.

كما أن تطور الحقيقية فيها إتاحة لتنفيذ قدرية التوسع في رقعة النشوء والارتقاء؛ وهذه هي القيمة التعليمية للتأمل والتفكر إذ إنهما آليتا عملية النشوء والارتقاء.

فالقرآن يحرر الإنسان من اتباع ما يتعارض مع تجديد العقل للمحافظة فقط على التاريخ الأبوي، كما يحرر العقل من الاقتداء الأعمى المُعثِّر للتنوير الفكري أو العقدي ويُحذره من أضرار وجدانية التمسك بالعقيدة الفكرية في حالة مخالفتها للمنطق التجديدي، وهي الأمور التي أورثت الأوليين وثنيته القديمة.

ويدعم الثورة على تلك الوثنية من خلال دعمه لاستقلالية التأمل والتفكّر واكتشاف القوانين.

وبذلك فمصادر استخلاص الحقيقة في القرآن هي؛ تجارب الأمم والنفس والكون.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) سورة الرعد.

جدة sehama71@gmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7333 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة