Culture Magazine Saturday  28/09/2013 G Issue 413
فضاءات
السبت 22 ,ذو القعدة 1434   العدد  413
 
خطيئة التعبئة ضدّ سوق عكاظ!!
خالد بن أحمد الرفاعي

 

-1-

تتنافس الأمم الواعية في المحافظة على إرثها المادي والمعنوي، وآثارها الثابتة والمنقولة، ويُعدُّ هذا التنافسُ – عند بعض الباحثين - تعبيراً عن طبيعة الإنسان، وفطرته الميّالة إلى الاقتناء، وضخّ الحياة في أشيائه القديمة حين تراودها فكرة الرحيل..

وربما عده باحثون آخرون شكلاً من أشكال المحافظة على الهوية، خاصة في عالمنا الذي يأرز إلى تكسير الحدود الفاصلة بين الهويات المتباعدة، وصهرها في هوية واحدة؛ يضع حدودَها وملامحَها من يملك القوى الثلاث: العلمية، والعسكرية، والاقتصادية ..

في هذا السياق جاء اهتمام الدول النامية بآثارها الثابتة والمنقولة، وتتبعها بقصد إحيائها لغايات متعدِّدة..، وفي هذا السياق ولدت فكرة سوق عكاظ، وأخذت طريقها إلى التفعيل؛ فاهتمّ المثقفون السعوديون وغير السعوديين بالمشاركة فيها، أو متابعتها ورصد مراحل نموّها؛ أخذا بأهمّ الفرص في استثمار إمكاناتنا التاريخية والجغرافية، وجعلها منطلقاً لإعادة قراءة ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ومصنعاً لاكتشاف المواهب وتطويرها، ومساراً جديداً لمزيدٍ من فرص التواصل، والتفاعل، والعمل ..

-2-

لقد ذُهِلتُ حين استمعت إلى أحد طلبة العلم وهو يصف سوقَ عكاظ ببوابة العودة إلى الصنم، وخطة إحياء الجاهلية وثقافتها الوثنية، وازددتُ ذهولا حين رأيتُ بعض المحسوبين على الفكر والثقافة والأدب يشاركون - نثراً وشعراً - في هذا الموّال الرخيص، وحزنتُ كثيراً على ثلة من الشباب ذهبت وقودا لهذه التعبئة المشينة، وتولت بطاقتها العجيبة مواجهة عكاظ: باتهام المشروع، والتشكيك في مقاصد من اقترحه وشارك فيه، أو باركه من بعيد، دون وعي كافٍ بمنطلقات المشروع وغاياته..

ويبدو لي أن المشكلة الأولى لهؤلاء المعترضين تكمن في قطيعتهم مع النشاط الثقافي، وابتعادهم عن عالم المثقفين، واعتمادهم في فهمه على الوسيط الذي يحتكر المعلومة لنفسه، ويفرضها على أتباعه بسلطة النصّ الديني؛ لذلك تجدهم متحفزين سلباً ضد أي تجمّع ثقافي، خاصة حين يأخذ طابعاً مفتوحا ومتنوّعا (الأدب، التشكيل، المسرح...)، وهذا ما يشفّ عنه تعاملهم الموحّد مع جميع الأنشطة الثقافية، فلو أجزناهم – مثلا – في موقفهم من عكاظ، وأخذنا اعتباراتهم العقدية على محمل الجدّ فكيف يمكن أن نسوّغ لهم موقفَهم من إحياء المواقع التي مرّ بها الرسول - عليه الصلاة والسلام - والآثار التي خلّفها ؟ وكيف يمكن أن نقبلَ منطقهم برفض إحيائهما؛ لأنه يتضمّن معنى من معاني الغلو في الدين، أو الغلو في الأنبياء والأولياء ؟ وكيف يمكن الأخذ بمنطقهم في رفض إحيائها؛ لأن النبي – عليه الصلاة والسلام - لم يأمر بإحيائها – كما يعبِّر أحدهم - ؟

وحتى لو قبلنا موقفَهم من تحريم الاهتمام بالمواقع التي مرّ بها النبي – عليه الصلاة والسلام - أو الآثار التي خلفها، فكيف يمكن أن نسوّغ تحذيرهم الصاخب من معرض الكتاب، واسترسالهم في استصدار الفتاوى التي تمنع من زيارته؛ لاعتبارات يمكنُ حلُّها بالتواصل الهادئ ..!

وحتى لو جاريناهم في موقفهم من معرض الكتاب، وآمنا – من باب التنازل للخصم – بأنه نافذة تطلُّ بنا على بحر هائج مائج من الشبهات العقدية والفكرية فكيف يمكن التعاطي مع تحرفهم إلى التعبئة ضد مهرجان الجنادرية، ومحاولاتهم في استصدار الفتاوى التي تحرم زيارته أو التفاعل معه ؟!

وحتى لو جاريناهم في موقفهم من الجنادرية، وأجزناهم في تخوّفهم من مغبات الاختلاط وما يتصل به فكيف يمكن تسويغ موقفهم من الأندية الأدبية (أثناء الانتخابات)، ومن الأنشطة المسرحية، واللجان النسائية في المؤسسات الثقافية، والحلقات الفلسفية، والملتقيات والمؤتمرات الخاصة ؟!

سنظل نتراجع أمام هؤلاء دون أن نصلَ معهم إلى حد، وكلما منحناهم موقعاً من أرض الثقافة سيجدّون في طلب آخر؛ ذلك بأنّ منهم من لا يؤمن – كما أسلفت – بأهمية النشاط الفكري أو الثقافي، ولا بالقيمة التي يمكن أن يضيفها التعدّد والتنوّع، ولا بالرسالة التي يمكن أن توصلها الفنون والآداب، بل ليست لدى بعضهم قناعة بالمثقف، ولا بإسهامه في نهضة الأمة قديماً، ولا بما يمكن أن يسهم به في انتشال الأمة من دركات الظلمات..، وفي المثل الذائع : «من لا يعرفك لايثمّنك»!!

-3-

يعلم بعضُ هؤلاء أنّ المحافظة على آثار الأمم السابقة من المسائل المختلَف فيها بين العلماء، ولا يجهل بعضُهُم أنّ من العلماء المعاصرين (السعوديين وغير السعوديين) من رجّح جوازَ المحافظة عليها، وربما رجّح بعضُهُم الجواز واشترط، ولم يكن ردُّ هذه الآثار ممنوعاً بالإجماع حتى عند العلماء المتقدمين، ففي مسألة ترميم الكنائس وما شابهها من دور العبادة ذهب بعضهم (كالمالكية، وجمهور الشافعية، والحنابلة) إلى تحريم ذلك، ورأى آخرون (كأبي حنيفة والشافعية على الأصح) الجواز إذا فتحت البلاد صلحاً، وإذا كان الاختلاف في ترميم دور العبادة معتبرا ً فإن الاختلاف فيما دونه معتبرٌ من باب أولى، خاصة حين يكون إحياء الأثر محكوما بقيم الدين الإسلامي كما سيأتي ..

في العصر الحديث اهتمّ العلماءُ بصور متعددة حول هذه المسألة، لكنّ إجماعهم لم ينعقد على التحريم، كما لم ينعقد على الإباحة، وإذا كان بعض العلماء قد اختار التحريم (لاعتبارات يمكن تفنيدها) فإنّ بعضَهم الآخر قد اختار الجواز؛ فكأن الطرفين قد اتفقا على أن تظلّ المسألة مفتوحة – كما كانت – على الاجتهاد والبحث العلمي، وقابلة للتعاذر في القناعات، وللتمايز في السلوك أيضا.

-4-

يختزل السجلُّ التاريخي سوقَ عكاظ في ثلاث صور :

-أنها سوق تجارية تُعرض فيها السلعُ للبيع فتشترى .

-أنها سوق أدبية تُعرض فيها المواهب (الشعرية والنثرية) وتحكّم .

-أنها عيد ديني من أعياد الجاهلية / الوثنية.

ولكنْ من يتتبع هذا السجل بشقيه : القديم والحديث يجده قد اهتمّ بشأن الصورتين الأوليين (التجارية والأدبية)، وتردّد كثيراً في عرض الصورة الثالثة (الدينية)؛ ولذلك يمكن أن نقول إنّ طابع عكاظ التجاري والأدبي غلب طابعه الديني؛ وتجيء تسميته بالسوق لتعبِّرَ عن أصل هذا التجمّع، وكيف أنه تجمّع تجاري في الأصل، انتشرت على جنباته دوائر مختلفة، تسعى إلى استثماره، أو استثمار معارفها ومواهبها من خلاله .

على هذا الأساس تولت الجهات المسؤولة أمر إحياء عكاظ، مستغلة قيمتيه التجارية والأدبية، بل سعت الجهة المشرفة على عكاظ إلى كسر صورته الدينية القديمة باستغلال أنشطته لعرض قيم الإسلام مباشرة أو ضمناً، ولا أدل على ذلك من مسرحية الأعشى، التي وظف فيها الزميل د.سامي الجمعان التفاتة الأعشى إلى النبي –عليه الصلاة والسلام-، وانسجامه الروحي مع قيم الدين الجديد، حتى كأنه ممّن الذين أسلم لسانه وكفر قلبه !

إنّ اختتام النصّ المسرحي بأبيات الأعشى في مدح النبي - عليه الصلاة والسلام - يمكن أن يكون تعبيراً عن حضور الإسلام في النشاط الذي ينتمي إلى عصر الجاهلية، وبذلك يتجلى عكاظ حديثا بصورتين قديمتين، هما :التجارة والأدب، وبصورة حديثة هي الروح الإسلامية التي لم تقطع علاقتها مع الجاهلية في كل شيء، وإنما جاءت لتأخذ منه وتذر، في تفاعل عبر عنه النبيُّ الكريم بقوله: «إنما بعثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق»، وإنّ من تمثّل روح الإسلام أن نحاكيَ اتساعَ هذا الدين العظيم باتساعٍ فكري وسلوكي، وأن نجعل قيمه العظيمة فوق حظوظنا، وانقساماتنا، ومعاركنا..!

وكل موسم عكاظي أنتم بخير ...

هامش : اعتمدت في عرض تفاصيل الاختلاف الفقهي حول ترميم آثار الأمم السابقة على د.خالد بني أحمد ود.علي الزقيلي في بحثهما «آثار الأمم السابقة وحكم المحافظة عليهما في ضوء الشريعة الإسلامية.

تويتر : @alrafai - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة