Culture Magazine Saturday  28/09/2013 G Issue 413
فضاءات
السبت 22 ,ذو القعدة 1434   العدد  413
 
نقد النقد.. وتنظير النقد العربي المعاصر(1)
د. عمر بن عبد العزيز المحمود

 

(لا أنكر منذ البدء أنَّ هذا العمل مستفز، فهو يبحث في الاختلاف ويُسلِّم به، ويُحاول أن يتلمَّس نظاماً له ويرسم حدوده وضوابطه الممكنة في مَجال النقد الأدبي عموما، وفي حقل نقد النقد والتنظير النقدي خصوصا)، بِهذه الكلمات بدأ الدكتور مُحمَّد الدغمومي كتابه الذي يَحمل عنوان هذه المقالة، وواضحٌ من خلال هذه المقدِّمة أنه كان يدرك صعوبة هذا الموضوع، ويعي تَماماً التعقيدات التي ستواجهه وهو يعالِج عدداً من القضايا المتصلة به.

ولِهذا فهو يكشف في مقدِّمته عن أنَّ النقد الأدبي من حيث هو موضوع ليس مقصوداً في هذا العمل لذاته، ولكنه موضوع تأمل وتفكير لنوعين من الخطابات ارتضى أن يُسمِّي أحدهُما (نقد النقد) بينما أطلق على الخطاب الآخر (التنظير النقدي). ولعلَّ مصدر الصعوبة التي تعتري الولوج في مثل هذه الموضوعات هو إشكالية الوضع المعرفي للنقد الأدبي من حيث هو موضوع، حيث يوضِّح المؤلف أنَّ هذا العلم لا يستقرُّ ولا يرضى بِحدود صارمة، ولا يقنع بِمرجعيةٍ أو استراتيجيةٍ واحدة، بل هو ميدان معرفة ديناميةٍ يُحقِّق المقبولية بإيجاد درجات مُختلفة عن المعقولية التي لا تنفي التعارض والتسليم بالاختلاف الذي كلَّما رام الابتعاد عنه رجع إليه بقوة، وذلك عن طريق اقتراح بدائل تزيد الوضع تعقيداً وإشكالا. ويشير الدغمومي إلى عقبةٍ أخرى تُصعِّب من هذه المهمَّة التي يزمع القيام بِها في هذا الكتاب، وهي أنَّ النقد الأدبي لا يَمتلك وجوداً يُخصِّصه في المعرفة، بِمعنى أنه دائماً ما يقترن بعلمٍ أو فلسفةٍ أو بأشكالٍ أخرى من المعرفة، ويتحرَّك بِحُريَّةٍ ليكون مكان حوار لِحقولٍ مرجعية؛ كحقل الأدب، وحقل المعرفة (العلوم الإنسانية)، وحقل العلم (المستوى الراقي في المعرفة)، وحقل النقد نفسه، وحقل الثقافة الذي يَجمع شتى الأفكار والقيم والتمثُّلات، وحقل الحياة الذي ينشط الحقول السابقة ويَمنحها عناصر مادية وحوافز ومؤسسات وأدوات تنعكس على الحقول السابقة في شكل تصورات وذهنيَّات، وحقل الإيديولوجية الذي يتخلَّل الحقول السابقة، فيفصل بينها تارة، ويَجمع بينها تارةً أخرى، ويعطيها الوحدات السرية التي تتحوَّل إلى خلفياتٍ ورغباتٍ وأشكالٍ من التناقضات.

ويصل المؤلف بعد كلِّ هذا إلى بيان الهدف الرئيس من هذا المشروع، وهو السعي إلى اقتراح نَموذجٍ للتفكير في النقد، يكون صالِحاً لِما يُسمِّيه (نقد النقد)، واقتراح نَموذجٍ مناسبٍ لِما يعُدُّه (تنظيراً) للنقد.

ويَحرص المؤلف قبل البدء في فصول كتابه على بيان نقاط الاتفاق والاختلاف بين مفهوم (نقد النقد) و(التنظير النقدي)، فيبيِّن أنَّ كون هذين الخطابين يقفان على عتبةٍ واحدةٍ لا يعني أنَّهما شيءٌ واحدٌ أو علمٌ واحد، وبقدر ما هُما مُختلفان متمايزان عن (النقد) وعن كلِّ خطابٍ معرفيٍّ آخر من جهة، هُما من جهةٍ أخرى ينطلقان من فرضيات عملٍ مُختلفة، ويعملان باستراتيجيتين متباعدتين قد تتضافران وتتساندان، لكنهما غير متطابقتين تَماما، فخطاب (نقد النقد) ينكبُّ على النقد من أجل إنجاز عملٍ على عملٍ موجود، وخطاب التنظير ينكبُّ على النقد من أجل اقتراح بديلٍ جديد، وبين إنجاز العمل والاقتراح يكون الحاصل أحيانا متشابِها، وأحياناً يقرب خطاب (نقد النقد) إلى خطاب (التنظير) بِحيث يُمارس هذا بعض اختصاصات الآخر.

وعمد المؤلف في هذا العمل إلى فحص خطابات (النقد الأدبي) و(نقد النقد) و(التنظير) المرتبط به، وقاده ذلك إلى إدراك جُملةٍ من عناصر الاختلاف وأساساً شكَّل توظيف تلك العناصر التي تُحدِّد طبيعة الاستراتيجية الموجَّهة لكلِّ خطاب، وهو الأمر الذي جعل المؤلف يلتزم بتسمية ثلاثة أنواعٍ من الخطابات التي تعمل تَحت متن (نقد النقد)، وهي: خطاب (تاريخ النقد)، وخطاب (تَحقيق النقد)، وخطاب (تعليم النقد وتقريبه)، وتأتي أهَميَّة هذه الخطابات في أنَّ كلَّ واحدٍ منها يُحرِّك النقد في اتِّجاه يُكيِّفُهُ بصورةٍ ما، واللافت هنا أنَّ هذه الخطابات في نظر المؤلف لا يُمكن أن تُعدَّ نقداً للنقد إلا إذا امتلكت مَجموعةً من الخاصيَّات أشار إليها في ثنايا معالَجته لِهذه القضية.

وهذه الخاصيات يتوجَّب أن تَجعل الكلام مشروع تفكيرٍ في بديلٍ في مَجال النقد، ومشروعاً يتأسَّس على سؤال مركزي هو بِمثابة الفرضية، واستراتيجية تتوخَّى تغيير مشروعٍ أو مشروعات سابقة، ووعيا إبستيمولوجيا يستوعب مرجعيةً مُحدَّدة، كما ينبغي أن يَمتلك الكلام خاصياتٍ أخرى تَجعله مفاهيم نسقية متضامنة وملائمة، لَها صفة نسقٍ مستقلٍّ ولو نسبيا، ولغةً اصطلاحيةً بدرجةٍ كافية، وقوةً استدلاليةً مُحقِّقةً للمعقولية والمقبولية، وصيغةً نظريةً مُعبَّراً عنها، مقترحةً أو معدلَّةً لصيغة سابقة.

وهذا يعني أنَّ الخطابات المشار إليها آنفا لا يُمكن أن تعدَّ نقداً للنقد إلا إذا امتلكت هذه الخاصيات، مِمَّا يعني بدور ه أنَّ مؤرِّخ النقد لا يبلغ درجة (نقد النقد) على كلِّ حال، وليس مَن يؤلِّف كتاباً تقريبياً في النقد ويعرض فيه صورةً ما للنقد قصداً إلى التعليم والتثقيف يُمكن أن يُسمَّى ناقداً للنقد، كما أنَّ ليس كل مَن يتكلَّم عن النقد يُعدُّ مُنظِّراً له.

omar1401@gmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة