Saturday 28/12/2013 Issue 423 السبت 25 ,صفر 1435 العدد

العموم العربي وبروتستانيّة الثقافة

(أ)

لماذا عنونتُ عن شيوع الثقافة بالبروتستانيّة؟ وأيّ دلالة من المصطلح المذهبي-الأم (البروتستانت: المعارضون-المحتجّون) يمكن تقاطعها مع تفكيك الظنّ بسقوط النخب الثقافية؟ وهل يقودنا التفكيك إلى تعزيز دلالة القائلين: بسقوطها بما تحمله من أفكار ومشاريع وأسئلة ونقد؟ أم سقوطها بدلالة رفع الامتيازات عنها وسقوط الاحتكاريّة المعرفيّة؟ وهو الاتجاه الذي أثّر على ذوبان النخبة تحت معادلة رياضيّة متعلّقة بالندرة والوفرة؟

في البدء، عليّ أن أضع تصوّراً حول مفهوم النخبة الثقافيّة في الواقع العربي، والذي يتشابه مع مفهوم الطبقيّة؛ فتحت ظروف غير طبيعيّة في الإنسان قامت النخب الثقافيّة العربيّة متأثّرةً بالطوباويّة الدينيّة تفرّدها أو متأثرة باستبداديّة السلطة وتفرّدها، فقامت تقسّم الإنسان إلى حامل للنور وآخر حامل للظلام، فكأنّما هذا جُبِلَ على المعرفة والعلم والآخر جُبِلَ على جهالة؛ وهذا أصل في المفهوم الطبقي لا يختلف كثيراً عن الطبقيّة الاجتماعيّة والدينيّة أيضاً، ولعلّ هذه الطبقيّة عاملا من عوامل عدّة أقامت حاجزاً بين هؤلاء النخبويين الطبقيّين في بدايات القرن العشرين وبين عموم الناس، بينما كان الاستبداد السياسي العربي أقرب للناس على علّاته ومشاكله وطغيانه.

وأصل في المفهوم عندي يرتبط بتحولات القيمة بين الندرة والوفرة، فحينما نتطلّع لحالة (سقوط النخبة وغياب المثقّف) بعيداً عن هذا الترابط فإنّ التصوّر يكون مبتورا، ومرّة أخرى نقع في شرك العموميّات ونعمى عن التفاصيل الدالة على الحالة الواقعيّة؛ فالنخبةُ مفهومٌ مؤقّتٌ يعمل وفق دلالة ظرفيّة مرتبطة بحصريّة القيمة لدى أقلية وغيابها عن الأكثريّة، والمثقّف كما رجل الدين كلاهما يتزايد دوره في دول يتفاوت فيها نسب التعليم والمدنيّة ويتضاءل في دول ترتفع فيها المدنية والتعليم، لأنّهما متورّطان بعماء طبقيّ: فالمثقّف يقسّم العلم والمعرفة بينه وبين جمهور يفتقر لهما في الواقع أو على الافتراض، وكذا بالنسبة لرجال الدين إذ يقسّمون ملكيّة الإيمان والتقوى والأخلاق بين طبقتهم وبين الجمهور المراد هديه على ظنّهم وزعمهم أنّهم على ضلالٍ، وكلاهما أو أيّاً من يمارس دور الوصي على الآخرين فإنّما يفترض واقعاً أو جهلاً أنّه ينتمي إلى أقليّة نخبويّة وأنّ الآخرين ينتمون إلى أكثريّة ناقصة؛ فما يصنّف نخبة في زمن ما يصير عموماً في زمن آخر، أو في مكان آخر.

وهو ما يجعلنا نفهم: أنّ (النخبة) أقليّة ولا تكون أكثريّة وإلاّ ذاب المصطلح في العموم، وذوبانه لا يعني سقوط محمولاته ومنقولاته وتأثيراته، فحين نحدّد القيمة التي على ضوئها يُبنى معيار النخبويّة فإنّ الثقافة -على تطوّر مفاهيمها وتوسّعها- تحوّلت من النخبويّة إلى العموميّة؛ فإنْ أخضعنا القيمة إلى ارتباط المحصلة العلمية بالوظيفة التعليميّة والحكوميّة فإنّنا نجد في بدايات القرن العشرين وحتى فترات متقدّمة منه، دُوراً لتأهيل معلّمين بعد حصولهم على (المتوسّطة أو الثانوية) أو حصولهم على وظيفة حكوميّة. لكنّ وفرة خريجي المدارس والجامعات أزاحت عن المتعلّم المدرسي والموظّف الحكومي نخبويّته (أفنديّته)، وليس لسبب عدم نفعيّته أو تقادمه، فكلاهما في تزايد عددي، وليس أيضاً لوجود بديل يلغي الأصيل، لكن المسألة مرتبطة بقانون الندرة والوفرة.

(ب)

ربّما يعترض علينا هنا استخدامنا لمبدأ اقتصادي وإسقاطه على الثقافة والفكر، والمسألة أن من أهم أسباب وهميّة (سقوط النخبة) على افتراض تقادمها أو وجود بديل آخر، هو التغاضي عن الربط بين الثقافة وبين ما تقدّمه الثقافة بوصفها خدمة ومنفعة ودونهما تخلو الثقافة من الفاعلية وتسقط في العبث الثقافي، وكلّ خدمة بالمفهوم الاقتصادي العام هي سلعة تتعرّض قيمتها لمبدأ العرض والطلب والندرة والوفرة.

كانت القيمة للتعليم مثلاً تُحدّد مستقبل الشخص وتميّزه عن غيره، فهل قيمة خريجيّ المتوسّطة تؤهّلهم اليوم للحصول على وظيفة معلّم كما كانت بالأمس؟ والإجابة النافية لا تعني غياب المعلّم أو موت الوظيفة الحكوميّة، إنّما تعني رفع نخبويّته بناء على تغيّر ظرفيّاته، وذلك بتحوّل قيمتها تحت تأثير قوّة الوفرة على قوّة الندرة.

فهل احتكاريّة النخب الثقافيّة اليوم كما كانت عليه بالأمس؟ هل تملك ثقافة غير متاحة للجميع؟ لقد سقط التمييز الذي يجعلهم نخبة.

(ج)

ما يميّز هذا العصر، أنّه عصر المشاع المعرفيّ، أنّه عصرٌ قهرَ فيه الإنسان الأسرارَ، فكّ شفرة الدين والعلم، شفرة الإبداع، شفرة الثقافة التنويريّة، لم يعد أحد يستطيع أن يمارس وصاية على أحد تحت حجّة امتلاكه لعلم وثقافة غير موجودة عند الغير، ولسنا نقصد نهاية الاستبداد والتطرّف، بل نهاية شرعيّة الاستبداد والتطرّف نظراً لانتشار نقد الاستبداد لدى الخاصة والعامة معاً؛ وفكّ كلّ هذه الشفرات أخضع الثقافة برؤيتنا إلى ما بعدها عبر تدوالياتها من الفرديّة التنويرية مروراً بحضانة الفنون جميعةً وحتّى مفهومها الشموليّ الإنساني، إلى ما نظنّه عودة إلى الفرديّة التنويريّة ولكن عبر الوسائل الذكيّة في تداوليّة تصاعديّة النمو والإنتاج والفاعليّة؛ ولذلك لم يعد الزمن قابلاً على إنتاج وقاحة فرعون، والفرق بين فرعون والديكتاتوريات المعاصرة: أنّ فرعون كان وقحاً في ادّعاءاته نظراً لغياب المعرفة والثقافة عند عموم أتباعه، بينما الديكتاتوريات المعاصرة تستند على إدراك بوعي الناس وثقافتهم، فتقوم بمقاومة وتوجيه هذا الوعي والاتكال عليه تزويرا أو تضليلا؛ وإن كانت النتيجة واحدة: (التفرّد بالسلطة) لكنّ شتّان في مقاومتهما بين الأمس واليوم، وحينما خرج القذافي وقال: (أنا ليبيا) فإنّ الناس لم تصنّفه فرعوناً بقدر ما صنّفته: (مجنوناً).

(د)

لم تعد الثقافة (مقدّسة) أو شجرة محرّمة على العامّة، فأهم ما أنتجته مجانيّة التعليم –رغم انتقادنا لبرامج التعليم التوجيهيّة- حتّى عصور التقنية المعلوماتيّة أنّها أطاحت بالنخبة كتمييزٍ، تحت ضربات شيوع العلم والثقافة والنقد والشك وسهولة الحصول على المعلومة دون الحاجة لاستعراض عضلاتي في حفظ المعلّقات والصحاح والشروحات ومتفرّقات من التاريخ كانت تميّز النخب السابقة، هكذا تتحوّل الثقافة النخبويّة/الطبقيّة/الاحتكاريّة إلى بروتستانيّة ثقافيّة أشاعت للعموم تداول الثقافة وإباحة أسرارها، فكما أنّ البروتستانت يُعارضون حجر قراءة الكتاب المقدّس وفهمه على طبقة رجال الدين، فكذلك العموم العربي يحتجّ على حجر المعرفة على طبقة معيّنة دون عموم الناس، وهو عامل أساسٌ عندنا في التحضير إلى ما بعد الثقافة، والذي يعتمد على الفرديّة الذكية، الرافضة للوصاية المركزيّة الأبويّة: نخبةً أو سلطةً.

(ه)

حينما كانت المتون المقدّسة الكتابيّة حكراً على طبقة رجال الدين الكاثوليك والأرثوذكس، كان فهم الدين نفسه نخبويّاً، وما تزعزعت ثبوتيّات هذه الحالة ويقينيّاتها إلا بعد جهود الإصلاح الديني-البروتستاني، والتي مهّدت لمشاعيّة الفكر الديني وحق قراءة النص المقدّس من قبل العامّة، وهو ما يبرّر سقوط الحاجة لرجال الدين، ليس بسبب سقوط بضاعتهم وفكرهم إنّما بسبب سقوط احتكاريّتهم للمتن المقدّس، وهو ما نظنّه قد حدث أيضاً للفكر الثقافي، حينما كان حكراً على ثلّة من المتعلّمين أو غيرهم ممّن توفّرت لهم ظرفيّاتٍ، مكّنتهم أن يكونوا نخبة ثقافيّة تنويريّة وسط جموع غير متعلّمة جاهلة وأجواء ظلاميّة، لكنّ وفرة وسائل نقل الثقافة وتداولها، كسر احتكاريّة الطبقة المثقّفة، فأسقط الطبقيّة الثقافيّة ولم يسقط ما تحمله من أفكار، فأيّ منظومة فكريّة تتضمّن فكراً صالحاً وآخر فاسداً، فمسألة تفكيك الفساد والصلاح مثلاً أو نقد رجال الدين، كانت سابقاً مسائل تحتكرها نخبة مثقّفة، والحقّ: (أنّ الله لم يخصّ بعضاً من عباده بالفهم وبالدراية دون غيرهم)، بينما هي اليوم مسائل تداوليّة بين العموم.. ذلك أنّ مفهوم الخاصّة لم يعد مفهوماً مضبوطاً على مقاييس القرن التاسع عشر والعشرين، فالمفهوم تطوّر وتحوّل من كونه مفهوم طبقي ثقافيّ إلى مفهوم إعلامي وسائطي: من يتحكّم بوسائل ووسائط تداوليّات العموم فإنّ له القدرة على غيره في إدارة الدفّة المفاهيميّة والمشاركة في صناعة الواقع عبر التأثير على المؤثّرين الحقيقيين وهم العموم- ورثة النخب الثقافيّة، فإلى أيّ مدى يقدر العموم العربي الإتيان بالتنوير والنور في مواجهة ظلاميّات احتكاريّة رجال الدين للدين، واحتكاريّة أقليّات سياسيّة للسلطة؟ وهما المنازلتان الأهم في تاريخ النخب الثقافيّة العربيّة، والتي خسرت نتائجهما في معارك فكريّة وسياسيّة عديدة، ولم يزل الواقع خاضعاً تحت تأثيرات الاحتكاريّتين الدينية والسياسيّة، وما زال النور بعيداً عن هذا الشرق المشتعل بالنيران.

ياسر حجازي - جدة