Saturday 28/12/2013 Issue 423 السبت 25 ,صفر 1435 العدد

تراثنا ... والمثقفون 2-3

أفاد البشير الإبراهيمي الجزائري (ت 1385هـ) - رحمه الله -: أن الغرب يملأ عقول أبنائنا ونفوسهم بعلومهم وتاريخهم، حتى لا يبقى فيها متسع لذكريات ماضينا وأسلافنا، وإن الواحد من هذا الصنف من أبنائنا ليعرف الكثير عن « نابليون»، ولا يعرف شيئاً عن «عمر» - رضي الله عنه -، ويحفظ تاريخ « جان دارك» عن ظهر قلب، ولا يحفظ كلمة عن «عائشة» و«خديجة» - رضي الله عنهما -.

أقول: وغنيٌّ عن البيان لمن يلقي البصر وهو شهيد، أن حضارتنا العلمية أثَّرَت في الأوربيين، وعليها بنوا حضارتهم، وزادوها، وأنتجوها عملاً متواصلاً أفاد الإنسانية جمعا.

وقال الإبراهيمي - أيضاً -: (إن كثيراً من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا عن طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وإن المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية، ويوفونها حقَّها من التمجيد والاحترام،ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم، عنهم أخذوها، وعن لغتهم ترجموها، وإنهم ليحمدون للدهر أن هيأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس، وصقلية، وشمال أفريقيا، وثغور الشام؛ حتى أخذوا عنهم ما أخذوا، واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا، ولا زال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية، و معاهد شمال أفريقيا، ومعاهد الشام على الحضارة القائمة، ولا يزالون ينتهجون بعض المناهج الدراسية الأندلسية في معاهدهم إلى الآن، ولا يزالون يردون كل شيء إلى أصله، ويعترفون لكل فاضل بفضله).

« لقد اضطلع الأدب العربي بتغيير ذوق الأوربيين في فترة العصر الوسيط، كما اضطلعت العلوم العربية بتغيير عقليتهم، ويتفق مؤرخو الأدب الأوربي عامة على التأثير الحاكم الذي أحدثه الأدب الأندلسي في تطور القصة الأوربية في العصر الوسيط؛ فلم يعرف الغرب الأوربي من فنون الآداب قبل احتكاكه بالعرب إلا القصص الخرافية، والملاحم الحماسية...».

من المؤلم - حقاً - أننا نشاهد في كثير من الفعاليات الثقافية افتتان مثقفينا بالثقافة الأجنبية، خاصة فيمن يحصر اهتمامه فيها، متجاهلاً خلف ظهره ألواناً من الإبداع والجمال في ثقافتنا الثرة.

وقبل أكثر من ستين سنة أشار الدكتور: محمد محمد حسين - رحمه الله - إلى أن الانكباب المشاهد مظهر من مظاهر الاستيلاء الغربي على الثقافة وتغلغلها في صفوف المسلمين؛ ليحدث التغيير من الداخل في قولبة الإسلام وفق الأهداف والرغبات الغربية.

وأسوأ ما يدعيه أولئك المثقفون المستغربون: التجديد في الثقافة! وليتهم عرفوا الثقافة؛ ليجددوها، مع أن تجديدهم يقوم على أمرين: (هدم «القديم»، وبناء ما يتوهمونه من «الجديد» وهم ماضون في الهدم، لا يرضيهم إلا أن يأتوا على بنياننا من القواعد بما يتضمنه من دين، وتقاليد، وفنون، وآداب؛ ولكنهم سوف يعجزون عن البناء، سيهدمون مجتمعنا ثم يتركونه وسط أنقاض نظامه القديم فوضى، لا سكن فيه ولا قرار.

وبوادر هذه الفوضى وأعراضها ظاهرة لكل ذي عينين؛ ذلك لأن المجتمعات لا تُبنى في يوم وليلة، ولكنها تبنى في مئات السنين، ولا تبنى في صحفٍ منشَّـرة أو قاعات مغلَّقة، ولكنها عملية معقَّدة أشد التعقيد، تتفاعل فيها قوى المجتمع كله، ويستمر هذا التفاعل أجيالاً تتمخض عن هذه القواعد وهذه الأشكال، بما تتضمنه من التقاليد، والقوانين، وأساليب الذوق والتفكير).

وقد حذَّر البشير الإبراهيمي من ظاهرة التجديد في الأدب لأجل التجديد، وإنما العناية بالحقائق... وذكر أنَّ من الأهداف الخفية للاستعمار: إفساد الأدب وتمييعه، وتحطيم خصائصه، وهدم قواعده.

.أيها القارئ، إن من الحقائق التي تدارى من لدن بعض الكتاب، وقد يُضـرَبُ عليها بالقلم - وبالقلم فقط - أنه: لا غنى للمسلم عن تراثه، فكما أنه لا انفكاك بين المسلم ودينه، فإنه أيضاً لا انفكاك بينه وبين علوم دينه، ولغته، وتاريخه، وآدابه، وحضارة أمته.... وكلها تراث عظيم؛ لعظمة الدين، وحملته، والمهتمين بلغته وآدابه، وتاريخه، وسائر علومه.

وقد نقل العلامة: محمود شاكر عن أحد الغربيين كلمة جيدة، وأيده عليها، قال: (إن ثقافة الشعب، ودين الشعب؛ مظهران لشيء واحد؛ وإن الثقافة في جوهرها تجسيد لدين الشعب).

ألقى البشير الإبراهيمي الجزائري (ت 1385هـ) خطاباً ارتجالياً عميقاً في ثقافته وإدراكه وبيانه، ومما قال: (يقول المستعمرون عنَّا: إننا خياليون، وإننا - حين نعتز بأسلافنا - نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتَّكلُ على الموتى، يقولون هذا عنَّا في معرض الاستهزاء بنا، أو في معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مُذكِّراً؟!

ما يرمون إليه أنهم يريدون أن ننسى ماضينا، فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا؛ لم نجد ماضياً نبني عليه حاضرنا! وهو كلُّ ما يرمون إليه. وسلوهم... هل نسوا ماضيَهم؟

إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر، والأدب، والفلسفة، والحرب، والفن؛ إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر، فضلاً عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم تشهد، وهذه متاحفهم تردد الشهادة..... إلى آخر كلامه الأخَّاذ، والمبكي - رحمه الله -).

قال العلامة: محمود شاكر: (ثقافة كل أمة، وكل لغة؛ هي حصيلة أبنائها المثقفين، بقدر مشترك من أصول وفروع، كلُّها مغموس في الدين المتلقَّى عند النشأة؛ فهو لذلك صاحب السلطان المطلق الخفي على اللغة وعلى النفس وعلى العقل جميعاً، سلطان لا ينكره إلا من لا يبالي بالتفكُّر في المنابع الأُوَل التي تجعل الإنسان ناطقاً وعاقلاً ومبيناً عن نفسه، ومستبيناً عن غيره.

فثقافةُ كلِّ أمّةٍ مِراءةٌ جامعةٌ في حيِّزها المحدود كلَّ ما تشعَّبَ وتشتّت وتباعد من ثقافة كلِّ فرد من أبنائها على اختلاف مقاديرهم ومشاربهم ومذاهبهم ومداخلهم ومخارجهم في الحياة.

وجوهر هذه المرآة هو « اللغة»؛ و « اللغة» و « الدين» ـ كما أسلفت ـ متداخلان تداخلاً غير قابل للفصل البتَّةَ.

إبراهيم المديهش - الدمام