Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
فضاءات
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
الثورة السورية -4-
«أزمة الحقيقة المفقودة»
سهام القحطاني

 

«لا حقيقة في زمن الثورات والصراعات».

ثمة من يظن بواقعية القاعدة السابقة» لا حقيقة في الثورات والصراعات»؛ باعتبارها طوارئ، والطارئ غير مُحفّز للحقيقة بل يجب أن لا يكون محفزا للحقيقة، وقد يعتبر البعض أن الحقيقة الناتجة من أثر محفز الطارئ هي «حقيقة زائفة ومزيِّفة».

وقد نعتقد أن صفة الزيف ترفع عن الفكرة مُسلّمة كونها «حقيقة» لتخليها عن صفة الصدق.

والصدق ليس بالضرورة هو المتحكم في صناعة الحقيقة؛ لأن ضوابط «الصدق» ليست ممعيّرة ولا يمكن الثقة في ناتج الخارج على قانون الضبط أو المتجاوز له.

كما أن الصدق غالبا يعتمد على الأثر الوجداني للأفراد والجماعات، ولذا فهو متحرك غير ثابت وتكمن أهمية الثبات في ضرورة تأسيس المعتقد التشريعي.

ولذلك يُعوض بالتصديق نيابة عن الصدق في صناعة الحقيقة.

ويتميز التصديق عن الصدق بقدرة التصديق على إنشاء عقيدة من خلال تكوين الفاعلية والصلاحية المؤثِر في تحويل الفكرة إلى حقيقة وغالبا ما يرتبط بقوة الواقع.

وبالتالي فشرط صناعة الحقيقة هو التصديق، والتصديق لا يشترط لحصوله» الحق والصحة» إنما ما يملكه من «إمكانيات القوة وأشكالها».

فالفكرة تتحول إلى حقيقة من خلال الفاعلية والصلاحية فهما مصدرا التصديق لأنهما يمثلا القوة الواقعية، وتُنتج الفاعلية والصلاحية من خلال التشريعات والقوانين ومنظومة الإجراءات المطبقة لتلك التشريعات والقوانين.

أعود إلى فكرة «لا حقيقة في زمن الثورات والصراعات» قد يرى أصحاب الرأي «بتفريغ الثورات والصراعات من وجوب وجود حقيقة» أن الثورات والصراعات تسعى دوما إلى «استعمار الحقيقة» من خلال قوة الأرض والواقع، مما يجعل» الحقيقة الموجود بالقول مفقودة بالفعل»، كما أن زمن الثورات والصراعات جو مشجع على تفشي إفساد أصل غايات الحقيقة وترويج الحقائق الزائفة.

وفكرة «استعمار الحقيقة» من خلال «قوة الواقع» في ذاتها تُفسد عامل الموضوعية الذي يجب أن يتحقق في الفضاء العام لنشوء الحقيقة والارتقاء بها.

وشبهة وقوع إفساد وفساد مع سبق الإصرار هي التي تدفع القول بأن لا حقيقة في زمن الثورات والصراعات، كما أن عامل التكافؤ هو أيضا مفسد لأصل أي حقيقة.

ومن هنا نستنتج خطورة ملاحظة رئيس النظام السوري في توصيفه التقابلي بين نظامه وبين الثوار «»يمكن أن يكونوا أقوى في الفضاء لكننا أقوى على الأرض من الفضاء ومع ذلك نريد أن نربح الأرض والفضاء».

فقد ربط استحقاق الوجود بقيمة «القوة/والأقوى»، كما علّق فعلية الوجود بالقوة بما يمثل مصدر أهمية التأثير بالقوة «الفضاء والأرض» أي فاعل المعلوم.

والاحتكام إلى التصديق عبر قوة الواقع هو الذي يؤسس الحقيقة الزائفة. واستيعاب أثر القوة لا يتحقق إلا من خلال معرفة العناصر المُشّكلة للقوة، ومن أهم العناصر المشكلة للقوة هو عنصر «المعلوم»، فكل ظاهر هو مشكل لقوة وكل خفي يفقد إمكانية التحول إلى قوة.

وتتعدد أشكال المعلوم ما بين المعلوم الكمي والمعلوم الكيفي والمعلوم الوظيفي والمعلوم الوصفي والمعلوم الوقائعي فهناك المعلوم عبر العدد والمعلوم عبر الصورة والصوت المعلوم عبر الدين والتاريخ والجغرافيا،و المعلوم الوصفي هو ما يتحقق عبر العلم والسلاح، والمعلوم الوقائعي ما يتحقق عبر السيطرة على الواقع، أو «القوة على الواقع» مع ملاحظة أن القوة غالبا ليست مصدرا لتحقيق العدالة.

كما أن عبارة بشار الأسد تعني دلالة الدفع بواقعية «التكافؤ» فيما يتعلق بتحديد مصدر ثابت للحقيقة، إفساد لأصل الحقيقة، وهذا الإفساد هو في مصلحة «غياب أصل الحقيقة»، وتقع شبهة الإفساد في حالة الثورة السورية من جوانب عدة ؛ إشكالية الموقع الجغرافي لسوريا، إشكالية تعدد الأديان والطوائف، إشكالية التحالفات الدولية متضاربة المصالح، كل تلك الجوانب تُستغل لتعمد إفساد أصل غاية حقيقة الثورة.

إن التشكيك في «أصل الحقيقة أو أصل الحالة» الممثلة للحقيقة يتم عبر العديد من الطرق منها تعمد وقوع شبهة إفساد أصل الحقيقة من خلال تكافؤ المعلوم كما نرى ذلك في عبارة بشار الأسد.

والمعلوم هنا المُوقِع لشبهة الإفساد ليس قاصرا فقط على تحكم النظام في قوة الواقع على الأرض فقط، بل أيضا نتيجة المعلوم المتحكم فيه الآخر»قوة أصدقاء النظام السوري» على «الواقع الدولي».

وفي المقابل هناك المعلوم المتحكم به «الثوار» وهو كما قال بشار الأسد» الواقع الفضائي» والمساند له والمتمثل في «أصدقاء الثورة» المعلوم الذي يمثل قوة « الواقع الدولي».

ورغم تأثير الواقع الفضائي المعلوم الذي يتحكم فيه « الثوار» إلا أن ذلك المعلوم لم يستطع أن يُخرج «الثورة» من مأزق ذلك «التكافؤ» الذي أوقع غاية الثورة في شبهة إفساد أصل الحقيقة الذي يُرو ج له الطرف الآخر من تكافؤ القوة، إلى فسحة «قوة الاستحقاق» التي تُبرئ أصل الحقيقة من تهمة الإفساد. وتدخل «قوة الواقع الدولي» ما بين «أصدقاء النظام السوري» و»أصدقاء الثورة السورية» كما أسهم في تعزيز «أزمة التكافؤ» فقد أسهم أيضا في تجميد «إيجابية التفاوض» وتقسيم طاولة التفاوض؛ بين الثوار أنفسهم من ناحية وبين الثوار والنظام السوري.

واستمرار «تكافؤ القوى» هو الذي أضر بالثورة السورية وحولها إلى مجرد صراع بين النظام والمعارضة.

وإخراج الثورة السورية من مأزق «التكافؤ» لن يتم إلا عبر طريقة من طريقتين الأولى «اتفاق جماعي للدول الكبرى» على شرعية الثورة واستحقاقها لتولي الحكم، أو «تسليح الثورة» لتغيير الواقع على الأرض لمصلحة الثورة، فالاتفاق الدولي على شرعية الثورة أو الموافقة على تسليح الثورة السورية هو إعلان «لصحة أصل حقيقة غاية الثورة»؛ وهذا الإعلان بدوره سيُفكك «فكرة التكافؤ» إلى «الأحادية الاستحقاقية» الضامن الرسمي لانتصار أصل حقيقة غاية الثورة السورية.

وأنا هنا لا أقصد «بالأحادية الاستحقاقية» الغلبة.

لأن الغلبة الذي تتحكم في صناعة الحقيقة عادة ما تكون تابعة «لقوة الواقع» وهذه التبعية تتناقض مع عامل الموضوعية كمؤسس للفضاء العلائقي المشترك الذي يشترط بدوره التصديق والرضا، وبذلك فالموضوعية وفق الشرطين السابقين هي ضامن لأصل «وحدة الحقيقة».

كما أن فكرة «استعمار الحقيقة» التي ترتبط نشأتها بزمن الثورات والصراعات غالبا ما تخضع «للقوة على أرض الواقع» وهذا ما جعل بشار الأسد يعلن شرعية استحقاقه من خلال قدرة على التحكم «بقوة أرض الواقع»، وقدرته على الجمع بين قوة الأرض وقوة الفضاء.

وهنا تُصبح العملية عكسية في نشأة الحقيقة، فبدلا من أن تؤثر الحقيقة بوصفها الوظيفي كإضافة في صناعة الواقع الجديد، أي أن مبادئ الثورة هي من تصنع الواقع السوري الجديد، أصبح الواقع كقوة جاهزة هو المهيمن في صناعة الحقيقة، ولذلك ما يزال النظام السوري يقدم الحلول والمخارج لإنتاج واقع جديد هو المتحكم في رسم أصل حقيقته.

لقد كان الاحتكام «لقوة الواقع» هي الإستراتيجية الرئيسة وما زالت التي يعتمد عليها النظام السوري في الدفاع عن «شرعية الاستحقاقية» و» إفساد أصل حقيقة الثورة».

وقد نجح النظام السوري أن يجر الثورة لتبني «الإستراتيجية « ذاتها وتحويلها من «ثورة سلمية» إلى «ثورة مسلحة».

ولعل الثوار أرادوا من هذا التحويل إلى ربط ثورتهم بما يضمن لهم «شرعية الاستحقاق» أي «قوة أرض الواقع» لإثبات الشرعية الاستحقاقية لمبادئ الثورة وترويج إفساد أصل حقيقة النظام السوري.

ورغم نبل ذلك التحوّل إلا أن الثورة أدخلت نفسها بنفسها «مأزق التكافؤ». لقد ظنت الثورة السورية أن أصل حقيقة «شرعية الاستحقاق» لن يتحقق إلا من خلال «القوة على أرض الواقع»لتتقابل عبر قيمة التكافؤ مع «النظام السوري» وبذلك خرجت من منظومة «الثورة» إلى منظومة»الصراع».

ولا شك أن تحول الثورة السورية إلى إستراتيجية «الصراع» أضر أصل «غاية حقيقة الثورة» وحوّل أصحابها من «ثوار» إلى «معارضين»، وغيّب ملامح أصل تلك الحقيقة مما جمّد تنامي التعاطف الدولي معها.

والأهم من ذلك هو افتقاد حامل شرعية الاستحقاق ايجابيته، وأقصد بحامل شرعية الاستحقاق» قيمة التفاوض» كمعادل للمعلوم الضامن لأصل غاية حقيقة الثورة مقابل احتفاظ النظام السوري لايجابية شرعية الاستحقاق.

إن التفاوض بلاشك هو حامل لإيجابية الاستحقاق لكنه لا يتضمن ولا يُنتج شرعية الاستحقاق.

لقد انقسمت طاولة الثوار السوريين بينهم كما انقسمت بينهم وبين النظام السوري كما انقسمت بين أصدقائهم وأصدقاء النظام السوري.

وفي ظل انقسامات طاولة المفاوضات من الأردن إلى تركيا إلى مصر ثم جنيف؛ أطفال يقتلون ونساء تُهتك أعراضهن وبيوت ومساجد تهدم، وما بين جثث الأطفال ودموع النساء ودماء الرجال حقيقة ضائعة تبحث عن أقدام لتستقيم واقفة وملامح لتبرز هويتها.

ما لم يتعلمه الثوار السوريين بعد سنوات طوال من التفاوض بين العرب وبين إسرائيل أن طاولة التفاوض الدولية لا يمكن أن تسع شرعيتين استحقاقيتين ولا يمكن أن تنتج اعترافا لمصلحة «وحدة أصل حقيقة مفردة».

وإن طاولة التفاوض هي غالبا من تؤسس أزمة الحقائق المفقودة.

لكننا لا نتعلم من التاريخ.

جدة sehama71@gmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7333 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة