Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
فضاءات
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
مكونات الذاكرة.. ومقاربات اليومي
علي الدميني

 

تتسع الذاكرة لما لا يحصى من المكونات، ولكن القاص هنا يعمل على اختيار عناصر أساسية منها يتم استحضارها وتداولها في مستوى دلالاتها المفعمة بحيوية نستالوجية أبعادها الواقعية والأسطورية، ويعمل على توظيفها في سردية النص كأيقونات تعمل على تخصيب النص القصصي، بتمثلات واقعية مفارقة لمرجعيتها في الذاكرة، وكحقل انفتاح دلالي يتجاوز دالها المعياري المألوف والمتداول، من أجل إنتاج نص اللحظة الحاضرة وتشوفاته المستقبلية الحية.

لذلك يمكن لأي قارئ للمجموعات القصصية لجبير المليحان أن يلحظ الوجود الواقعي لتلك المكونات (الأطفال - الأب - النخلة، القرية، المزرعة، وسواها) في معظم قصصه الطويلة والقصيرة، وأن يحيلها أيضا إلى مرجعيتها القروية في قرية « قصر العشراوات» في جنوب حائل، ويمكنني كذلك - بحكم علاقتي اللصيقة به - أن أؤكد على ذلك حيث أرى أن الأب المسنّ في قصصه، غالباً ما يعكس صورة والده الوقور الذي تزوج بوالدة الكاتب وقد ناهز الستين من عمره، فلبس ثياب الأب والجد معاً، في كل تجليات الأب القروي الحنون على طفولة أبنائه المجايلين لأحفاده.

وفي نفس الوقت أستطيع أن أستذكر معه صورة نخيل الدار، ونخيل مزارع القرية، وغروب الشمس خلف قمم جبال أجا، كدلالات على الحضور الواقعي «للنخلة» و»الطفولة»، في قرية النص، ولكنه وهو يشيد معمار قصصه لا يستعيد تلك الأسماء وتلك الأشياء كحضور واقعي للروح الكامنة في فضاء الأسرة وعوالم القرية وحسب، وإنما يقوم بتحويلها إلى علامات لغوية أخرى داخل بنية النص، تحيلنا على متخيل سردي يحفل بإمكانات التأمل والتأويل والترميز في مستوياته الثقافية وعبر تشكيله الفني المنفتح على الحاضر والمستقبل.

و سوف تحتفظ هذه المرحلة الممتدة من عام 1980م وحتى اليوم، بتعالقها الفني المستمر مع «شعرية القصة» التي تنتمي لمرحلته الأولى، رغم أن رؤية القاص ستأخذ منحىً آخر بانفتاحها على تيارات الواقعية النقدية والتوليدية، واتكائها على البعد الخارجي الكامن في شعرية «مكونات الذاكرة» في الحكاية الشعبية والأسطورية، وفي مقاربات الواقع لتشكيل بنية نصه المختلف عن مرحلته السابقة. وسيتبدى لنا ذلك في مقاربتنا لبعض تلك النماذج فيما يلي:

صانع الملح

(معركة العيون)

يسألونك ما الفرق بين اليمامة واليمّ

بين المليحة والملح

بين الوحيدة والواحدة

قلت لغو اللغة

والتباس الجناس

هاشم جحدلي (معلقة المرأة)

سوى الملح الذي لامتعة للمائدة بدونه، هناك الملح المجازي الحاضر في ملح جمال الحياة، جمال الحبيبة، وفتنة الحبيب المملوح.. وهناك ملح الجناس الذي احتفى به الشاعر الجحدلي أيضا!

عنوان هذا النص لا يتحدث إلا عن الملح بدون صفة، لكنه يتضمن تنوعا إشارياً إلى تعدد وجوهه. ومن هذا التنوع تتبدى فاعلية عناصر رئيسة في تشكيل النص متمركزة في «معركة العيون»: عيون صانع الملح، الذئبة، الذئب، «النجر»، في مقابل تجليات الملح وعيون المليحة، وملح البارود، الذي يشير إليه في الهامش، كاتب النص.

يبدأ الصراع منذ فجر ذلك اليوم الذي كانت تخشى فيه الزوجة على زوجها من مغامرة البحث عن الملح وكأنها تخاف من فقده، وحين همت بتوديعه «نظر إليها باسماً... وتحرك صوبها ،فراغت، أمسكها فتخلصت منه، أطبق عليها بذراعيه، رفعت رأسها فبرق بياض العينين الكحليتين»، وتنتصر العينان بالظفر بلحظات مجاسدة حميمة قبيل الوداع.

ارتوى الرجل من المليحة على الفراش، وذهب صوب مغارات الجبال البعيدة للحصول على ملح البارود، والدخول في معركة جديدة مع عيون الذئبة!

استعد الرجل جيداً لهذه المعركة فأنجز مهمته بدقة، وعاد إلى بهجة المليحة والأطفال في البيت، وإلى مهمة إعداد الملح، غير أنه لم يكن يعلم أن عيون الذئاب الأخرى تطارده في القرية أيضاً.

دخل ضيف من باب الدار المفتوح، فرحب به وأجلسه أمام النار ودلة القهوة في حوش البيت، فيما كانت المرأة تشتغل على خوص النخل، تحت ظلال عناقيد العنب.

يجلس الرجل( الذئب) تحت عريشة العنب ويقطف عنقودا كبيرا ويتأمل المرأة ويبدأ بأكل الحبات وهو ينظر إلى المرأة ويبتسم.

الرجل (الزوج) وهو منهمك في تصنيع البارود في قلب النجر بهدوء وخبرة، يلاحظ معركة العيون، فيشير للزوجة بعينيه للمغادرة..فتغضب المرأة وتدخل البيت..

الرجل (الضيف) يسأل: لماذا تصنعون البارود..هل تحاربون؟

الرجل( الزوج) يدخل البيت لإطفاء غضب المرأة

الرجل (الذئب) يفتح عينيه المدربتين لاكتشاف محتويات عين النجر، ويدكّ الملح بقوة للتعرف على سرّ الصنعة، لكن الملح هنا ينفجر في عينيه ووجهه!

لم يستخدم الكاتب هذه الصفات طوال القصة ولكنني وظفتها هنا في سياق تحليلي، لأنه كان يستخدم صفة الرجل للزوج وللضيف معا بما أضفى على الحكاية حالة من الغموض الملتبس الذي يقود ا لقارئ إلى إعادة النظر في مقاطع النص أكثر من مرة، لكي يتأكد بدقّة من مآلات معركة العيون، والتعرف على أي من الرجلين مضى إلى حتفه!

هذا ملخص مكثف للحكاية في القصة، مع بعض تأويلاتي، ورغم الطابع التقليدي لمضمونها وتساوقها الزمني الخطي، إلا أن الكاتب استطاع أن يقيم حداثة سرديتها وأنموذج حواريتها، عبر توظيف حيادية كاميرا التقاط الصورة السردية، ومواربة تضمين وظيفية الرؤية، بعيداً عن أحكام القيمة الإيديولوجية، وكذلك فيما يتبدى من حوار بين شخصيات النص، وفي مقدرة الكاتب على المحافظة على سلاسة إيقاع تطور الحدث وجمالية ترابط جمله السردية أيضاً.

أبي وبورخيس

(تناص المخيلة الشعبية)

في هذه القصة، تجربة تناص يمكنني أن أسميها «بتناص المقابلة»، ما بين مخيال شعبي كتبه بورخيس في كتابه «المرايا والمتاهات»، نقلا عن الف ليلة وليلة، ومخيال آخر دوّنه القاص نقلا عن أبيه عن أجداده، من آثار حكاية شعبية شفوية، تنقلت عبر الأزمان حتى تم اصطيادها على يدي القاص، بفعل تأثير حركية ذلك التناص.

ومن جماليات الحيل الفنية التي استخدمها القاص هنا إشارته في الهامش إلى بحثه عن جذور نص بورخيس في كتاب «الف ليلة وليلة»، ولكنه لم يجده في نسخته القديمة من هذا السِّفر، ولا في نسخ أخرى وطبعات متعددة، وفي ذلك دلالة على تقصّد الكاتب تعويم المصدر المكتوب، للإشارة إلى أن «بورخيس» ربما كان هو الذي كتب هذا النص من ذاكرته الشعبية في أمريكا اللاتينية!

ملخص حكاية «بورخيس» المنقولة عن الف ليلة وليلة، تشير إلى أن رجلاً موسرا في مصر، بذّر أمواله فافتقر، وحلم ذات ليلة بأنه موعود بكنز من الذهب في «اصفهان»، فيسافر محتملا كل مغامرات السفر إلى هناك، حيث تم القبض عليه، وضربه، وإيداعه في السجن مثل لصّ. وحين تأكد السجان من مصداقيته قال له: أيها الأخرق السريع التصديق، لقد حلمت ثلاث ليال بدار في القاهرة، في قاع حديقتها كنز من الذهب.. ولم أصدق هذه الأكذوبة».. خذ هذه النقود وامض ِ.

أخذ الرجل النقود، وعاد في رحلة معاكسة إلى بيته، ومن حديقته أخرج الكنز الدفين!

لا يكتفي القاص بوضع نص بورخيس كوثيقة في مفتتح النص، وإنما يستمر في مشاغبتها طوال سردية قصته، حيث يقول: «هكذا قال بورخيس، أما نحن، أنا وإخوتي، فكنا نعرف هذه القصة منذ عقود... القصة التي قالها بورخيس نفسه، هل أخذها من والدي؟؟» ربما كان أبو بورخيس، أو جده، أحد هؤلاء الأحفاد، ربما، ولكن أبي لم ينطق لنا اسم بورخيس... وبورخيس ذاته، لم يكتب اسم أبي في قصته السابقة» (ج ي م - ص49)

ضمن هذا الأفق المفتوح للكتابة على هوامش النص ومتنه، يدون جبير قصته الموازية، التي لم يختر لها والده عنواناً، غير اسم صاحبها «ابن رواف»، ويبقيها نصاً مفتوحاً يدخل فيه الأب الراوي وأبناؤه، على خلاف نص بورخيس الذي صار نصاً مكتوباً مكتفياً بذاته كأيقونة.

و ابن رواف ،رجل فقير، من قرى حائل، لا يملك إلا حماراً يحمل على ظهره أعشاب الجبل إلى القرية، وقد كرهته زوجته وغادرته إلى أهلها، فحلم مثلما حلم صاحبه المصري، في ثلاث ليال متتالية برجل يقول له: رزقك يا ابن رواف في الشام».

يبيع الرجل حماره ويخوض غمار الرحلة الشاقة إلى الشام، وهناك تقوده الصدفة للقاء شيخ ذي لحية بيضاء.. فيقص عليه حكايته، ويجيبه الشيخ: أصلحك الله يا بني، هذه أضغاث أحلام، فكيف تصدقها؟ لقد رأيت حلماً يشبه حلمك، ولكنني لم أصدقه، وقد تكرر ثلاث مرات وهو يقول لي: أعلم أن مال ابن رواف تحت مربط حماره!!

عاد ابن رواف إلى بيته، وحفر تحت مربط حماره، ووجد كنزاً من الذهب، فوزع بعضه على أصدقائه ومعارفه.

بعد هذا الملخص المبتسر لحكائية النص، أود أن أشير إلى النقاط التالية:

*- هذا التناص الذي غدا لعبة فنية بين يدي كاتبه، لم يعد كذلك بالنسبة للقارئ، لأنه أصبح لعبة معرفية، أساسها التأمل في البنية الأسطورية للحكاية الشعبية، وتجلياتها المتشابهة عبر الأمكنة والأزمنة. وهذا التشابه لا يحيلنا إلى مسألة التفاعل الثقافي عبر الترحل ومغامرة السفر، أو إلى الاطلاع على ما تم تدوينه من حكايات الشعوب الأخرى، وحسب، وإنما يمكن الوقوقف عليه من زاوية أخرى، ترى ان الظروف المتشابهة للبشر في العصور الأقدم، تحفز على تصنيع أدوات متشابهة، للزراعة والري والمأكل والملبس، مثلما حفّزت المخيلة الشعبية على انتاج حكاياتها المفعمة بأسطورتها وخرافتها، حيث يلجأ عبرها البشر إلى الحلم الأسطوري تعويضاً عن عجزهم أمام المآزق المعيشية، أو في عدم القدرة على الوصول إلى إجابات عن اسئلتهم الواقعية الملحّة!

*- وسوف نرى في هذا النص المختلف على صعيد التجربة القصصية المحلية، وعلى مستوى الانجاز القصصي للكاتب، تناصاً دالاً على حساسية فنية شديدة الرهافة وعلى رؤية ثقافية مبصرة، حين اشتغل على حكايتين تعبران عن تجاور البعد الأسطور ي والخرافي للبعد العقلاني، فنرى في القصة التي أوردها بورخيس أن السجان في اصفهان قد سخر من أحلام الرجل المصري، مثلما سخر الرجل المسن في الشام من أحلام ابن رواف، لكن المخيلة الحكائية الشعبية التي تبقي على هذا المكون العقلاني، تقوم بنقضه في آخر الحكاية، فتحتفي بعودة الرجلين إلى منزليهما حيث يحفر كل منهما في حديقته ويجد كنزاً من الذهب تحت أقدامه!!

*- في كتابة النصوص السردية، يحتفظ الكاتب الفعلي غالباً بمسافة تفصله عن السارد المفترض، بما يقوي حياديته وحوارية النص، وهذه هي السمة الغالبة في معظم القصص القصيرة التي نعدها أنموذجية.

أما في هذا العمل، فإن الكاتب يتماهي تماماً مع سارد القصة المفترض، عبر اختياره لكتابة بورخيس، والوقوقف على حكايته الشعبية، والتحقق من وجودها في النص الأصلي لألف ليلة وليلة، وكذلك في اشتغاله الفني على توظيف المتن والهامش، والكتابة التأملية داخل النص، واستحضار المكان وتسميته ،وتحريك الشخصيات العائلية، لبناء هيكلية النص الكلية، لنرى ابنة الراوي/ الأب الذي قص لأبنائه حكاية ابن رواف، تسأله (كأنثى) بعد أن يفرغ من كلامه: وماذا عن زوجته يا أبي؟؟

فيرسل الأب ضحكته النادرة:

ماتت من الغيظ!

ونتساءل هنا: ترى هل أثّر هذا التماهي بين الكاتب والسارد المفترض على حيوية النص وحواريته؟

في رأيي أن الفنان المتمكن من حرفيته، قد أبدع في كتابة هذه القصة، وأن حضوره كسارد داخل النص قد عزّز من مفاعيل تأثيره على القارئ وشده إلى مصداقية الحكاية، والتفاعل الفني والوجداني معها، حيث لم تعد القصة نتاجاً للتناص بين حكايتين، وحسب، وإنما تناصاً بين مخيلتين شعبيتين، أو بمعنى أوسع: تناصاً تاريخياً بين مخيلات الشعوب المختلفة! حيث يقول الكاتب: «هذا قبل أن أعرف بورخيس، أما الآن وفي هذا الوقت بالذات، فلا شك عندي في وجود بورخيس ما، في أحد كهوف أجا، مع أرواح الوعول والذئاب والصيادين، وأصوات المغنين التي تتردد وسط الجبال منذ آلاف السنين».

الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة