Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
فضاءات
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
أبحث عني!
منيرة السميح

 

قضيت سنوات وأنا (أبحث عني) حتى جعلت من هذه العبارة وصفاً لي في إحدى شبكات التواصل الاجتماعي، وحين سافرت لبريطانيا منذ بضعة أشهر قدمت لي مدينة أكسفورد تحديدا الفرصة لأكتشف نفسي تلك التي كنت أبحث عنها فيما مضى..

بقدر ما يشتكي البعض من الغربة وبقدر ما جعلوها مصدر إلهام للكتابات الحزينة الممتلئة بالوجع بقدر ما وجدتها مختلفة، الغربة التي تصنعك ليست سيئة، الغربة التي تعيد ولادتك للحياة من جديد ليست سيئة ؛ الغربة التي تمنحك منظاراً بأبعاد حقيقية للحياة لا يُكبّر الأشياء ولا يصغّرها ليست سيئة.

في تجربتي الأولى مع الغربة أعترف أني التقيت بنفسي كما هي للمرة الأولى، وكما كنت أتخيلها وأنا أفتش عنها، سنوات وأنا أبحث عني دون نتيجة تجعلني أزفر كل القلق بداخلي، لذلك حين احتضنتني أكسفورد كان أول ما فعلته أني أقصيت كل ما كنت أعرفه عن نفسي أو بالأصح كل ما شُكلت لتكون عليه وتركت لها الحرية في أن تكون ما تريد، حينها عرفت أن الغربة فرصة مثالية ليكتشف الشخص نفسه، يعرف ما يحببه وما يكرهه، و ما سيسلكه دون أي شكل من أشكال الرقابة سوى الرقابة الذاتية.

كانت الغربة كمن فتحت ذراعيها لي على طريقة هه حبيبتي كوني ما تشائين، وفي كل مرة سأمسك بيدك وأعُينك ،، أول ما شعرت به حقيقةَ أني لم أشعر بالغربة ! بدأت أسير في الطريق المؤدية لي ساعدتني الحياة البسيطة أكثر و أكثر أوكلتني لنفسي في كل شيء دون حاجة لوسائط كثيرة، رتبتُ أموري، شكلي وحديثي كما أعتقد لا كما تتطلب مني مقاييس معينة أن أتطابق معها،كانت النصرة في هذه الأشهر للإنسان بداخلي بعيدا عن كل الاعتبارات، خبرت لأول مرة كيف تهاتفني صديقة حزينة فلا أحتاج شيئا سوى أن أرتدي ملابسي وانطلق لأحتضنها، لا حاجة لترتيبات كثيرة، لا حاجة للقلق بشأن الوقت والمواصلات، كل شوارع المدينة في هذه اللحظة تفتح ذراعيها لنا تريحنا من عناء التفكير بمكان دافئ لا تتلصص فيه الأعين علينا، عرفت لأول مرة كيف أمشي تحت المطر دون أن أكون محتمية بسيارة ودون أن أخشى الغرق، منحتني غربتي الأولى الفرصة لأعرف شريكتي في الوطن ونظيرتي في المذهب تلك التي لم أعرف عنها إلا بعض الخرافات والتي كنت ملزمة بعدم التفكير فيها كثيرا حتى لا أخرج عن حدود رسمت لي مسبقا، صديقتي التي حذرتني التنشئة في حدود مذهبية معينة من التعاطي معها هي ذاتها التي تنزع معطفها في ليالي أكسفورد الباردة وتغطيني به و أنا في طريقي لمحطة الباص، هي ذاتها التي خلعت شالها ذات يوم ولفته حول عنقي لأني تحديت الشتاء وخرجت بتي شيرت لا يدفئ ولا يقي من برد، وهي التي استعانت بها (ليزا) مرشدتي الأكاديمية حين وجدتني متعبة و أبكي فقطعت محاضرتها وجاءتني راكضة وجهها مخطوف وقلبها يخفق بشدة، هنا منحتني الغربة الواقع وخيرتني بينه وبين ما عداه من حكايات مشحونة بالكراهية ولأني أحترم عقلي الذي فضلني به الله عمن سواي من الكائنات اخترت الواقع، ولا أنسى ذلك المشهد الذي تعثرت به وأنا في طريقي للبحث عني عندما هبت إحدى زميلاتي في الصف والتي لا تدين بديني للمطالبة بترتيب معين للجدول الدراسي في شهر يوليو بحيث لا يثقل كاهل زملائها المسلمين أثناء صيامهم.

في كل خطوة في شوارع أكسفورد كانت نفسي تبتسم لي أكثر فأكثر حتى بدأت في مغازلتي ثم انخرطنا في الحب بعد أن أهدتنا الغربة خارطة الطريق الصحيحة المؤدية لنقطة الالتقاء.

بريطانيا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة