Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
فضاءات
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
قال المُفتي لا تُفت
عبدالله بن سعد العمري

 

أن تظن أن أي فعل تستخدمه في لغتك العربية وُضع بصورته الحالية فأنت «مفتي» بلغة المصريين!, فأصل قال هو: قَوَلَ, وجاء جَيَأَ, وصام صَوَمَ,حيث أُبدلت الواو أو الياء بالمدة المفتوحة الطويلة للتخفيف, فصارت قَوَلَ: قال, وجَيَأَ: جاء!

وأن تظن أننا الآن نُصنف من العالم الثالث فأنت مُفتٍ أيضا, فأصل هذه الكلمة جاءت مع نشوء الحرب الباردة, في مقالة لألفريد سوفييه عام1952حينما وصف الغرب بالعالم الأول كقوة عسكرية واقتصادية, والشيوعيين كعالم ثاني, وغيرهم من العالم كثالث في الترتيب, وانتهى مفعول هذه الكلمة بعد خلوص الحرب الباردة, والتي حُوِّرَتْ بعد ذلك بأيدي «مقتحمي التخصصات» إلى دِلالة ثقافية معناها أن العالم الثالث هو عبارة عن شعوب متخلفة تعاني من صعوبات شتى وصلت «بفضلهم» إلى أن تكون صعوبات عقلية!! دون أن يذكروا أن التصنيف الصحيح اليوم هو: دول متخلفة فنامية فصاعدة فصناعية.

وأن تعتقد أنه يمكنك عند الوضوء للصلاة أن تغسل يدك اليمنى دون اليسرى, أو لا داعي من وجهة نظرك للمضمضة فأنت مفتي بدرجة قياسية, لأنه جاء في صحيح البخاري-ن (1/ 84) 196 -: (حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان قال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمي يكثر من الوضوء , قال لعبدالله بن زيد اخبرني كيف رأيت النبي صلة الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بتور من ماء فكفأ على يديه فغسلهما ثلاث مرار ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة ثم أدخل يده فاغترف بها فغسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أخذ بيده ماء فمسح رأسه فأدبر به وأقبل ثم غسل رجليه فقال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ)

وهكذا جاءت المعلومات الدقيقة السابقة من خلال سؤال أهل التخصص عن علمهم!

وتخيلوا أنني سألت سياسيا عربيا عن إعراب قوله تعالى (فإذا عزم الأمرُ فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم) أو سألت مسؤولا في الصحة عن سبب نزول قوله تعالى (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) أو جاءني أحدهم فقال لي: ماذا يعني قانون تنظيم التعامل مع الهندسة الوراثية والذي أقره مجلس الشيوخ السويسري في عام 2001!

لا شك وأن أجوبتنا ستكون صادمة؛ إذا لم تكن شجاعة لتقول «لا أدري», وبالتالي: تنشأ نظرية الفُتْيَا عند كثير منا إذا لم يتحمل أصحاب التخصصات تفسير علومهم أو أحجموا عن بذلها للناس بمعنى نشرها؛ فألم نكن نتحدث بعربية قريش حتى تغافلنا عنها فدبت فيها اللهجات المتأخرة دبيب النمل؟ وألم نكن تحت فرقة واحدة ناجية حتى ضعفنا عن بذلها للعالم فدبت فيها الملل والنحل حتى استهلكت من الإمام الشهرستاني سنواتٍ ليجمعها في كتاب؟

لقد كان من المفيد لي قراءة كتاب «رب حامل فقه ليس بفقيه» للدكتور أحمد بن علي آل مريع, والذي عرض فيه لصناعة الفتوى ومقاييسها, مع رسائل حملت في المقابل توجهات كاتبها, والتي تدعو الناس لاحترام التخصصات, ومنها الفتوى.

ويساورني الشعور بإمكانية أن نعلن ضمن مؤتمر ما بأن تخصصاتنا في العالم العربي-بشكل عام- باتت «منطقة منكوبة» من مقتحمي التخصصات الذين أفسدوا بتدخلاتهم لذة العلوم! فما الفائدة من دراسة الدين أو اللغة أو السياسة أو الطب أو الحقوق أو غيرها إذا كان الكل مُفتيا؟!

لقد خلط البعض وللأسف بين حقه في إبداء الرأي والاقتراح والتشاور وبين تجشمه عناء الإفتاء والتدخل وصولا إلى المغالطات الصريحة! وهذا ما يدعوني للخوف على ملكيتنا -ككتاب-لحرية الرأي, فكما أنه في الشارع العام يُفسد السائلُ الكاذبُ المحتالُ الفرصةَعلى أخيه السائلِ الصادقِ المحتاجِ؛ فيحجم المجتمع عن البذل لهما!

يكون بالإمكان في المقابل أن ينظر إلينا المجتمع والمختصون وقد بدونا ككتاب غازين, ننتقص ونهجم ونتدخل ونُعيب, دون أن يكون لصاحب النظر الكلمة الأولى في فنه! لا شك وأن هذا سيؤدي إلى تقليص مصداقيتنا عبر الزمن.

إن الوقت سانح لإعادة النظر في أقلامنا التي ما فتئت تريق دماءها معتقدة أننا نسخرها في ما يهم أوطاننا, فمعالجة قضايانا الأساسية أولى من التعرض لأحاديثَ شريفة, ونصوص ثابتة, لا يمكن لأي عاقل مؤمن متزن قبول الاعتراض عليها, أو محاكمتها!

وكان من الأولى أن نعيد صياغة نفوسنا، وقد اختلطت بمصابغ الاختلاف وتعودت عليه, وأن نتلون جميعا بلون الدين ثم الوطن.

* كاتب وأكاديمي سعودي asalamri@ksu.edu.sa الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة