Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
فضاءات
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
في امتداح الكلام
بثينة الإبراهيم

 

ذات صيفٍ، ليس بعيداً جداً فهو الصيف الماضي، اجتاحني حلمٌ أو ربما كان رؤيا، ونويت أن ألوذ بالصمت مقتديةً بالسيدة مريم عليها السلام حين نذرتْ للرحمن صوماً وعزمتْ ألا تكلم إنسياً ليومٍ على الأقل، وهذا ما فعلته أنا، فهبطت عليّ سكينةٌ قاومتُ بها أصواتَ القصف والاحتراق بنيرانٍ ينفثها تنّـينٌ معدنيٌ يحلـّق ويأبى إلا أن يترك لنا أثراً!

* لماذا أكتب؟ سؤالٌ تقليديٌ يسأله كل كاتبٍ لنفسه ربما، إذا افترضنا أنني من معشر الكتـّاب، غير أني لا أملك له إجابةً تقليديةً سوى أني أمارس الصمتَ وأصوم عن الكلامِ وربما أتحدث رمزاً -كتابةً أو قولاً- وقد لا أفعل! «غيري يكتب كما يتكلّم وأنا أكتب كما ألتزم الصمت» مثلما يقول أمين معلوف، فبين هذين الفعلين، الكتابة/ الحركة والصمت/ السكون، اختصرتُ حياتي التي اختـُزلت كثيراً حتى لم يبقَ منها سوى حروف!

* حين أفتح صفحة المستند البيضاء على حاسوبي، يبدو مؤشر الكتابة في «اختلاجاته» مقياساً للنبض -وهذه من خزعبلات الكتابةِ فهو لا يغيّر حركته التقنية الرتيبة علواً أو هبوطاً ويتجاهل برعونةٍ ما يختبئ خلف الكلمات- وتتفاعل معه الحروف التي «خربشتها» على صفحة بيضاء بخطٍ لا يُقرأ كي أحاول اقتناصها قبل أن تهرب، فتبدأ الكلمات بالوميض أمامي مثل إشارةٍ لمحطة وقودٍ على طريق سفرٍ مقفر!

* قد توصف كلماتي بالحالمة، ولكن ما أعرفه أنها تعاني أرقاً وقد يمرّ الليل ولا تكون هذه الكلمات سوى أعدادٍ للخراف القافزة من أحلام أمي! وأعرف أحياناً أنها تزدحم وتتدافع حد الذبول فتفتح أبواب الصمت وتقع عند عتبات السلام بحثاً عن سَـكينةٍ أو حتى مـُديةٍ تسعى أن تفرجَ بها ندفَ الغمامِ التي تسدّ منافذها عن الهطولِ شحاً، وقد أكشط بها_ كلماتي أو مديتي_ وجه السماء بحثاً عن بارق أملٍ يبدو أنه مثل جودو لا يأتي!

* خذلان الكلماتِ لي مؤلمٌ يترك في الروح بصمةً مثل «موضع إصبعٍ في طين» -ترى كيف استطاعت طالبتي أن تلتقطَ هذه الصورة الضاغطة على القلب بعمقٍ؟- ويدرك العصفور ما بي فينقر كل صباحٍ زجاج النافذة كأنه يحفر نفقاً في دماغي ينقّب عن الكلمات الهاربةِ في غفلةٍ من ورقةٍ! حين تضيّعني الكلماتُ -ولستُ أصفها بالألفاظ تزلفاً كي لا تزداد شروداً- يغدو صمتي مفتوحاً شاسعاً، وتدخل الكلمات في زمرة الأحلام المؤجلةِ إلى حينٍ من الدهر قد يأتي عليّ فلا أكون شيئاً!

* ليس لكلماتي ظلالٌ، ربما لأنني أكتبها بيدٍ تفوح منها رائحة مسحوق الغسيل فتنهال ناصعةً بيضاء من غير سوء، أو ملونةً ولا سوادَ يطلُ منها سوى لون الحبر، أعلم كم يبدو هذا بعيدَ المنال! لكنها حقاً بلا ظلال تمضي ولا تخلّف أثراً، مثل شبحٍ التقطته عدسة الكاميرا ويكاد ملتقطها أن يقسمَ أنها كانت هنا منذ قليل غير أنها اختفت بعد غطسها بمادة التحميض، وكي تكتمل الصورة الفارّة من فيلم رعبٍ ما، قد يتسنى لك رؤيتها تسيل من دفترٍ ملقىً على طاولةٍ ويثير صوتُ تنقيطها برتابةٍ الترقبَ مصحوباً بموسيقى ذاتِ وتيرةٍ عاليةٍ تشي باقتراب الموت أو الخلاص!

* لماذا أكتب؟ أكرّر السؤال لعلّ التكرار يسعفني بإجابة، كما يفعل الطلاب أحياناً تهرباً أو حيلةً لاستجداء الكلمة الأولى من الجواب، كلّ ما أعرفه أنني عقدت معاهدةً مع الكلماتِ لا أنوي نقضها، أو أنني لا أملك الشجاعة الكافية لفعل ذلك حتى الآن، فقد أيقنت باكراً أنها الشيء الوحيد الذي سيصحبني طوال حياتي إلى جانب اسمي طبعاً، وكلّ ما سوى ذلك لا يعدوكونه مجرد زوائد سيقتطعها مشرطٌ ما في وقتٍ لاحق!

* وما زلتُ بعد كل هذا أردّدُ أن: طوبى للصامتين حين يغدو الكلام... مجرد رفاهية!!

القاهره

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة