Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
سرد
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
قصص قصيرة
الحقيقة
هيفاء صفوق

 

توقفي هنا؛ ممنوع الاقتراب أكثر. بعد قليل سيسقط الليل ستائره، وتعم الفوضى الجبل، وتعتري المكان وحشة وخوف.. قلت لك توقفي.

- هل أنت خائفة؟

- لا، لكن أمي حذرتنا مراراً وتكراراً من الصعود لأعلى الجبل.

- هذه توصيات أمي، وليست توصياتي، إن لم ترغبي فلا تذهبي وعودي أدراجك سريعاً قبل أن تلدغ الأفاعي قدميك.

تكرر عباراتها ضاحكة: «غريبة هي مخاوف أمي».

- هل تعلمين عندما قرأنا مساء البارحة قصة المرأة الساحرة التي تقطن في أعالي الجبال، وتجادلنا كثيراً أنها قصص من الخيال، فلماذا الآن تجعلينها قصة حقيقية، وتمنعينني من الاقتراب؟

- كلامك يطمئنني قليلاً، لكن ألا تسمعي همهمات هنا وهناك؟

- مثل ماذا؟

- لا أعلم، أصوات خافتة تثير مخاوفي شيئاً فشيئاً.

- لا عليك؛ هي أصوات الريح تعبث بأغصان بعض الأشجار، لماذا تسمعينها بخوف؟

- لا أشاهد ما يبعث الخوف.. ركزي قليلاً ستجدين سيمفونية الوجود، إنه لحن قديم وأبدي، يذكرنا بطبيعتنا الأم، هذه الأصوات لم تؤذِنا.

> > >

يتأملان صوت الرياح، يشعران بتيار دافئ في كل خلايا الجسد، وكأنهما ارتفعا قليلاً عن الأرض.

- هل ما زلتِ ترغبين في مشاركتي السير لأعلى، ومشاهدة قريتنا من بعيد، أم ما زلت خائفة؟

- لا عليك، سأرافقك إلى حيث ترغبين، وليكن رجوعنا قبل المغيب؛ لا أريد أن تجزع والدتنا من غيابنا.

- نظرت إليها مبتسمة: كم أنت مطيعة.

> > >

كلما تقدما للأعلى اشتد البرد وقلت الأنفاس، وكأنهما يتلاعبان بصغيرتَين، لكن إصرارهما كان أقوى من طول المسافة. لفت انتباههما بيت مهجور، غطت أجزاءه بعض الأشجار؛ ليصبح كالمغارة. استغربا من انبعاث دخان من أحد جانبيه. اقتربا أكثر ثم أكثر حتى فوجئا بامرأة تشبه نساء القرية، يميزها شيء من الغموض. لم يسعفهما الاختباء طويلاً حتى تلاقت الأعين في لحظة رعب خاطفة. وعندما أمعنت المرأة في الطفلتين أشرقت ابتسامتها بهدوء؛ لتدفئ قلبيهما، وتنزع الخوف منهما سريعاً.

> > >

سألتهما من أين أتيتما؟ ولماذا تقدمتما كثيراً للأعلى؟ ألم تخافا ضياع طريق العودة؟

تبسمت إحدى الفتاتين: أنا قرأت كثيراً عن الجبال والغموض وصوت الرياح عندما يعبث مازحاً بالشجر، فلم أصدق كل ما كُتب؛ لذا أحببت أن أشاهد بنفسي كيف تكون قمم الجبال.

ضحكت المرأة وقبَّلتها: يثيرني فضولك يا صغيرتي.

- سيدتي، أريد أن أسألك سؤالاً: أنت تقطنين هنا بمفردك؟

- نعم، منذ زمن، لكني لست وحدي.

- ألا تخافين الهمهمات التي تصدر من الأشجار؟

- ماذا تقصدين صغيرتي؟

- عندما اقتربنا أكثر أصبح صوت الهمهمات يرتفع، لا أعلم من أين يأتي؟

- لا عليك صغيرتي، هل ما زلتِ تسمعينها؟

- لا، لا، لم تعُد موجودة.

- صغيرتي، إنه صوت الخوف في أعماقنا، كلما احتدت وتزاحمت أفكارنا المخيفة تصدر أصوات وهمهمات من بعيد، نتوهم أنها من بعيد، وما هي إلا من أعماقنا الداخلية، وكما تشاهدين عندما خفت مخاوفك اختفت تماماً تلك الأصوات. المخيف صغيرتي هو جهلنا، وتعمق الخوف في خلايانا منذ الصغر، فقُتل فينا حب الاطلاع والابتكار والفضول والجمال.

- ألا تخافين وأنت تسكنين في وسط الجبل وحيدة؟

- وما هي الوحدة صغيرتي؟ إنها فكرة ابتكرناها، ليست لها صحة في الوجود. أنا لست وحيدة؛ ألم تشاهدي الأشجار العظيمة كيف غرزت جذورها منذ آلاف السنين حارسة ومقدسة منذ نبتتها الأولى؟ فكيف أخاف وهي بقربي؟ كم حمتني في الليالي الممطرة والعاصفة، وتمددت ونمت على أجزاء من بيتي.

- سيدتي، لماذا لا أشاهد أحداً من البشر هنا؟

- بل يتعاقب الزوار كالليل والنهار، كما أتيتِ أنت يا صغيرتي، لكن زواري عميقون متأملون.

- لماذا هجرتِ القرية سيدتي؟

- حكايتي يطول شرحها. أنا هنا منذ القدم، وقد تجاوزت حدودكم الزمنية.

- سيدتي، هل أنت التاريخ؟ وتلك القصص القديمة إذاً هي حقيقية؟

- أنت أخبريني يا صغيرتي هل أنا حقيقية؟

- نعم، لكن الحكايات القديمة ربما تكون ضرباً من الخيال؟

- وهل أنت يا صغيرتي وجدتِها فعلاً من الخيال؟ سأسلك سؤالاً: ما الذي دفعك للمجيء إلى هنا؟ هل هو الخيال أم الحقيقة؟

- ربما هو الحقيقة سيدتي.

- إذاً، اعلمي أن كل الكلمات والحكايات ليست خيالاً ولا أساطير كما قيل. عقل الإنسان لا يتخيل ألا الموجود بالفعل في الكون حتى لو لم يشاهده، وهذا ما جعلك تأتين بكل فضولك. والحقيقة الأهم أنك هزمتِ الخوف.

- سيدتي، هل سيطول بقاؤك هنا؟

- نعم صغيرتي، أنا هنا، وسأكون هنا دوماً، وأنت ماذا ستفعلين؟

سأكتب عنك، سأكتب عن الحقيقة.

hifasma@live.co,uk

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة