Saturday 30/11/2013 Issue 419 السبت 26 ,محرم 1435 العدد

عبدالله الغذامي .. بل هي المواقف لا التنظير

إِذا مَرَرتَ بِوادٍ جَاشَ غَارِبُهُ

فَاعْقِل قَلُوصَكَ وَاِنزِل ذَاكَ واِدينَا

وَإِن عَبَرتَ بِنَادٍ لاتَطِيفُ بِهِ

أَهْلُ السَّفَاهَةِ فَاجْلِسْ ذاكَ نادينا

وَيُصبِحُ الضَّيفُ أَولانا بِمَنزِلِنا

نَرضَى بِذَاكَ وَيَمضِي حُكمُهُ فينا

بأبيات أبي فراس الحمداني هذه؛ استقبلنا ضيفنا الكبير د. عبدالله الغذامي بنادي الطائف الأدبي مساء الاثنين الفارط، وقد غاب عن النادي ما يقرب ربع قرن بتمامها وكمالها.

أتانا والوجوه التي حضرت له إبان فورة الثمانينيات ومعركة الحداثة المحتدمة إذاك، غير الوجوه التي غصت بهم قاعة النادي اليوم، ووقف البعض كيما لا تفوته محاضرة أبرز الطليعة المثقفة في بلادنا.

بل حتى الأخصام يومذاك غير أخصام اليوم في معظمهم، وقد تغيرت التوازنات، وانقلب الكثيرون، وانخلع عن الرسالية الثقافية أو الصحوية أبطالها، وذابوا في أتون وظائفهم الأكاديمية أو الحياتية، بل حتى المجتمع، الذي انفتحت أبوابه واسعاً عبر وسائل الميديا، لم يعد ذلك المجتمع الذي يصيخ فقط لمصدر توجيه وحيد.

كنت أتساءل وأنا على منصة المحاضرة، وضيف عروس المصائف متألق في محاضرته، وأهمهم مع نفسي: كيف هي مشاعر الغذامي الآن؟.. خمسة وعشرون عاماً هو عمر طويل، هل تراه يتذكر رفقته يومذاك، ومن كان يقتعد الصف الأول وقتها؟.. وهل استحضر في إلماحة سريعة معارك تلك المرحلة، وهو يطالع الجمهور العريض الذي أغلبه من جيل الشباب، الذي ربما أغلبه لم يولد بعد أو كان طفلاً يحبو؟.. وغلبني الفضول، وصممت على سؤاله لدى انفرادي به، بيد أن المحبين له أحاطوا به بعد المحاضرة، ولم يفلتوه إلا منهكاً من مشاعرهم التي غمروها بها.

تقوم العادة في مثل هاته الأمسيات، بتعريف الضيف عبر سيرة ذاتية يسيرة، تتضمن كتبه ومؤلفاته، بيد أنني عندما أردت تلك التقليدية، لأقدم ضيف الطائف الكبير؛ استسفهت رأيي. فكيف أعرّف بعبدالله الغذامي أمام رهط المثقفين، وجيل شاب، سبر تاريخه قراءة وبحثاً!! كيف أسرد برتابة كتبه التي ألّف، وأطروحاته التي كانت ولا تزال الشغل الشاغل للساحة الأدبية، في كل مرة تنزل فيها، والرجل بات يغشى حتى الشرائح المجتمعية الأخرى، ويعيش همّ المواطن البسيط الكادح، ويطرح له مبادرات الإسكان وغيرها، ويذهب للوقوف مع الثوار الأحرار في سوريا الأبية.

آليت التعريف بعبدالله الغذامي -هكذا مجرداً- بمواقف المثقف التي سلك وامتثل، فلعمرو الله، لا أميز ولا أرفع من المواقف التي تترجم الأفكار، لا ذلك التنظير الذي يدهشك ويأخذ بلبك، ثم عندما تسقطه على المؤلف وسلوكه، وتبحث عن دوره وأثره في المجتمع لا تلقى إلا علامة تعجب حائرة، وازدواجية مقيتة، وخيانة كبرى لدور المثقف الحقيقي في المجتمع.

لن ينسى جيلي والأجيال التالية، ذلك الموقف المتفرد الذي وقفه عبدالله الغذامي في احتجاجه المدوّي ومقاطعته للأندية الأدبية، بسبب آلية الانتخابات التي لم تقرها وزارة الإعلام إبان رئاسة إياد مدني، وبقي على موقفه وحيداً، حتى أقرّ د. عبدالعزيز خوجه هذه الانتخابات، وعاد للتواصل مع الأندية الأدبية، أزعم أن ذلك الموقف النادر والشجاع من الغذامي، كان أحد الأسباب الكبيرة في التعجيل بها، وضرب لنا فيها «ابن الجهنية» درساً عظيماً في كيفية ترجمة المثقف لفكره، والاحتجاج بطريقة مدنية متحضرة، والوصول للهدف بهذا السلوك المتمدن، وإن قلت الأصوات والمتابعين، بيد أن الحق لابد أن يظهر.

عبدالله الغذامي، يضرب مثالاً لذلك المثقف الذي يعترف بأخطائه، ويقر بمراجعاته، ولا يني عن التذكير بضرورة التجديد، وقد قال في إحدى حلقاتي الفضائية معه: «الجمود ليس من صفات المثقف».

لطالما وُصم المثقف بأنه يعيش في برج عاجي، وينظّر بعيداً عن المجتمع ووقائعه، غير أني أدعوكم عبر هذه الأسطر لمتابعة عبدالله الغذامي في «تويتر»، لتروا التواضع الحقيقي، بلا زيف ولا تكلف، وبسعة صدر ورحابة نفس، فالرجل مذ وطئ ذلك الموقع؛ لم يحجب رأي أحد أو «يبلّك» أي معارض، وستتلبسكم الدهشة، ويعلوكم العجب، عندما تقرؤون ردوده مع طالبة في عمر حفيداته، أو شاب جامعي غرّ، متباه بقراءة بعض الكتب.

دروس في التواضع الجم والأدب الرفيع والتواصل الحق مع الأجيال، غير ناس هبته عليّ في إحدى حلقات «حراك» وهو يقول: «أنا من أتعلم منهم يا أبا أسامة، أنا من أتعلم من أبنائي وزملائي في تويتر». صعقني بحق، وتمتمت: «ليتنا مثلك أبا غادة، ليتنا في هاته النفسية المتجردة». ما يدعوني هنا بالرجاء من بعض طلبته إلا أبا غادة، ليتنا في هاته النفسية المتجردة». ما يدعوني هنا بالرجاء من بعض طلبته الأكاديمين الذين وصلوا لمراكزهم بفضل الله ثم بفضله، أن تخصص رسالة علمية في سبر أغوار تجربة هذا المفكر في «تويتر»، والدروس التي قدمها.

سألني أحد طلبة العلم الشرعيين، بعد معاركه مع اللبراليين وأطروحاته عن «اللبرالية الموشومة»: «هل الغذامي بات إسلامياً؟»، أجبته: «الرجل من واقع متابعتي له، مفكر حرّ، لا ينحاز لأي تيار. ما يعتقد بصوابيته اليوم ينحاز له، وإن تبدى له غير ذلك تركه، وها هو اليوم يكتب حلقات عن الصحوة، ويقول برأيه فيها، وربما أتفق مع أطروحة له، وأعارضه في غيرها، ولا يمنعني ذلك من الاعتراف بريادته وفكره العميق، وبقدر محبيه وكثرتهم، هناك معارضوه أيضاً ومن كل التيارات».

سأختم، بكلمات بعثها لي خاصة أحد طلبة العلم من الطائف، لأحييه بها، وكنت سأتلوها في المحاضرة، بيد أن اللغة الجزلة التي كتب بها استعجمت عليّ، وفرقت أن تنسحب على بعض الحضور فأحجمت، وأحببت إثباتها هنا، ليعرف د. الغذامي منزلته عند بعض معارضيه أيضاً. ودونكم ما كتب صديقي:

«وفكر» تثبت الأبصار فيه ...كأن عليه من حِدَقِ نطاقا

ورُحمى لأبي الطيب وحسن عاقبةٍ في العاقبة، حدثني يا صاحبي عن فضاءات الأدب أُحدّثْك عن مراصده.

الأدب لذي الحس المرهف والروح اللطيفة حصان عريبٌ جموح، إن لم يُسيسْ برفق وتلطّف، ويُحزم شرودُه بِحَكَمَة حُسْنِ التأتِّي، وإلا شَرَد عند مواطن الطلب لإرواء ظمأ الأرواح، وحَرَن في ميادين النزال لِرَدِّ صِيال العاديات.

أرأيتك يا عذب الكَلِم وحلو الذوق حال المتؤدبة بلا أدب، والناهلة بلا تمييز!

لأدب سلاح بحدين، ورُوح بشفتين، ومنطق بلا عينين.

فإن وُفق أهيلُ الأدب لناقد يمسك آلة الأدب من قلبها حتى لا يميلَ ميزان النقد للجوهر دون الروح، أو للخيال دون حسن التصوير، أو للفظ دون معناه، أو للمبنى دون فحواه؛ فقد وُفقوا لمن خدم أدبهم وراعي لطف أرواحهم وأقام نطاق أفكارهم، فأبرد حرارة المشاعر بثلج الرقّة، وأدفأ برد أحاسيسهم بحرارة الصدق. حينها يستقيم أدبهم، وينعقد غمامُ نَتَاجهم، فيمرعون رياض أدب بني الإنسان، ويستنّون بحبورهم في أفانينه وأزاهيره، وتَصدُرُ شفوف نفوسهم عنه بعطن.

ناقدنا عبدالله الغذامي هو من قصدتُ فكرًا وخلقًا وأدبًا، ينفذ من الرغوة للصريح، ويفصل بين الحسن والقبيح، غواص في بحر النقد، لمّاحٌ في ميدان النظر.

للأمم مقدميها في كل فنّ، ولنا مقدَّمُنا في النقد الأدبي، وقامتُنا بعلو الكعب في الفكر. جَمَع الناسَ حين اختلفوا، أتدرون بماذا؟..

إنها صِدقية النفوذ لعمق معاني الفكر مع لبوس أجمل حلل الأخلاق.

غيره يثير المعارك الفكرية فيخرج الناس منها فريقان: شطرهما ضده، لكن صاحبنا يُخرجهما شطراهما معه!

شطران، بمعنى طبيعة الاختلاف حول الفكرة، لكنهما يخرجان بجرعة خُلقية فكرية، جمعت اللطف والتواضع وحسن الاستماع وتقدير المخالف، والكلام على الموضوع لا الواضع، وتشريح الفكرة لا المفكر، فيسكب ذلك المزيج الفريد في صدور الفُرقاء، فتكفي نفوسهم من الرضى دهرًا.. ذلكم هو الدكتور والناقد الأدبي والفكري».

شكراً لنادي الطائف الأدبي على تلك الأمسية الصاخبة، شكراً عطا الله الجعيد وفريقه الشباب، وقد استطاعوا إقناع مفكرنا بالسفر، وهو المتأبى أبداً لكل الدعوات، وبدأوا موسمهم الثقافي بأقوى افتتاحية، شكراً للزميلة الخلوقة التي شرفت بإدارة المحاضرة د. أمل القثامية، وشكراً لذلك الحضور الذي أبهجنا بمداخلاته ورقيه، غير ناس الحضور النسائي الفاعل.

عبدالعزيز محمد قاسم - إعلامي وعضو مجلس إدارة نادي جدة الثقافي - جدة