Saturday 30/11/2013 Issue 419 السبت 26 ,محرم 1435 العدد

من يراقب من في الصحافة السعودية؟ (1-4)

عندما انتهيت من قراءة كتاب جون برادلي الذي بعنوان (Saudi Arabia Exposed) وهو كتاب معظمه سطحي في نظري ويهدف إلى الإثارة عبر تلقط السلبيات التي لا تخلو منها أية دولة ولا يهدف جديًا للبحث عن الحقيقة. وكذلك يغلب عليه العرض المتحيز وغير الموضوعي وأحيانًا ربَّما المتجاهل عمدًا لأحوال السعوديَّة. ولكن بالرغم من كل ما سبق، وجدت في هذا الكتاب فصلاً متميزًا بعنوان (من يراقب من؟) (Who censors who?) الذي يُعدُّ أفضل فصل في الكتاب لكونه يتعلّق بتخصص المؤلِّف أيّ الصحافة، ووضح فيه جهد المؤلِّف في الحصول على معلومات من وعن كبار الكتاب والمثقفين السعوديين، وكذلك رصد، ثمَّ تحليل بعض الأمور بصورة صريحة وجريئة لم نعتدها في السعوديَّة، لأنّها من ناقد ومراقب خارجي لا يسعى إلى منصب ولا ترقية وبطريقة لم نعتد عليها بحكم موروثنا الثقافي. ولذلك قرّرت ترجمة بعض ما جاء في هذا الفصل وقمت بتنقيح الترجمة والتصرف بها قليلاً، وجميع الألقاب محفوظة للشخصيات السامية والعامَّة التي لم يذكر المؤلِّف ألقابها، ثمَّ بذلت مجهودًا في تلخيص تقسيم وتبسيط الفصل ليقع في 30 فقرة مكثفة. ووضعت عناوين للفقرات من عندي بحسب اجتهادي لجوهر محتواها.

ويجب ملاحظة أن المؤلِّف كتب الكتاب في النصف الأول من العشرية الأولى (2001-2005) من القرن الـ21، وقبل تولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله- مقاليد الحكم. وقد تركت عمدًا بعض المصطلحات الجدلية كما وردت (مثل: الشرطة الدينية، وشرطة الأخلاق، الوهابية.. الخ) بالرغم من تحفظ بعضهم عليها، لكي يعرف المعنيون بها كيف توصف هذه الأشياء من قبل المراقبين في الخارج. والمترجم - بالطبع - ينقل عن المؤلِّف فحسب، وهو لا يدعم أو يساند مزاعمه حول مختلف الأحداث. والكلمات الموضوعة بين هلالين كذا (...) للمترجم.

جون برادلي: سيرة موجزة

ولد الصحافي الإنجليزي جون برادلي عام 1970، في إنجلترا، وتخصص في الصحافة في جامعة يونيفيرسيتي كوليدج لندن، دارموث، وفي إكستر كوليج. يتكلَّم العربيَّة بطلاقة باللهجة المصريَّة، وعمل مراسلاً حرًا في الشرق الأوسط منذ عام 1999، لحساب مؤسسات مرموقة مثل واشنطن كوارترلي وذا نيو ريببلك، ورويترز، وملحق تايمز الأدبي (TLS)، وواشنطن تايمز وديلي تيلغراف، وذي إندبندنت، وذا فاينانشال تايمز. يظهر برادلي باستمرار في كبرى وسائل الإعلام ليحلل شؤون الشرق الأوسط والإرهاب. عمل محررًا في جريدة (عرب نيوز) السعوديَّة في جدة لمدة سنتين ونصف السنة، وأصدر بعد رحيله كتاب (تعرية العربيَّة السعوديَّة) في عام 2006م. كما أصدر عام 2008 كتاب (داخل مصر) (Inside Egypt) الذي تنبأ فيه بالثورة المصريَّة وسقوط مبارك وقد ترجم إلى العربيَّة مؤخرًا بعنوان (في قلب مصر: أرض الفراعنة على شفا الثورة).

وحاز برادلي قصب السبق عام 2012 بإصدار كتاب رائد توقع فيه فشل الانتفاضات العربيَّة بعنوان (ما بعد الربيع العربي: كيف خطف الإسلاميون ثورات الشرق الأوسط) ليكون تقريبًا أول من تنبأ بفشل الربيع العربي ووقوع ثورة مضادة كما شرح بوضوح ودهاء في الكتاب وقد صدرت ترجمته العربيَّة عام 2013 عن (كلمات عربيَّة) للنشر.

أما آخر كتبه فهو بعنوان (خلف حجاب الفسق) وخصصه للجنس في بعض الدول العربيَّة وإيران، وهو أهم كتبه نظرًا لندرة محتواه ولكونه مبنيًا على رحلات ميدانية قام بها برادلي بنفسه.

(1) جريدة تراقب أكثر من الرقيب

في تشرين الأول-أكتوبر 2002، نشرت رسالة احتجاج غير مسبوقة، كانت تلك الرسالة من الأمير تركي الفيصل رئيس المخابرات السعوديَّة السابق، الذي كان وقتها السفير السعودي في لندن وجاء فيها: (اطلعت على المقالة التي نشرتموها في جريدتكم بتاريخ 18-09-2002م، والمترجمة من المقالة التي كتبتها في جريدة الواشنطن بوست، ولقد ساءني سوء ترجمة مقالتي من الإنجليزية إلى العربيَّة، إضافة إلى حذف بعض الجمل من الأصل، وذلك لم نتعوده من صحيفتكم).

الجمل التي حذفتها الصحيفة من مقالة تركي الفيصل، كانت تشمل واحدة تؤيد إلغاء رئاسة تعليم البنات التي تديرها المؤسسة الدينيَّة الوهابية، وذلك بعد حادث حريق مدرسة بنات في مكة المكرمة في آذار-مارس الماضي، الذي أدَّى إلى وفاة 15 طالبة بعد أن منعت الشرطة الدينيَّة تدخل رجال مارين في الشارع لإنقاذ الطالبات بحجة عدم كونهم محارم للطالبات.

(2) سهو تحريري محرج

حذف تلك الجمل نتج منه مفارقة طريفة غير مقصودة لأن كاتبها المتدين وصاحب الفكر الإصلاحي المستنير، قال في تلك المقالة إن هناك نسمة حرية جديدة في الصحافة السعوديَّة لم تكن موجودة من قبل وتَمَّ نشر تلك الترجمة للمقالة حتَّى تكمل المفارقة التي تدل على (سهو) تحريري محرج!

(3) المثقفون السعوديون: لماذا؟

السعوديون المُتعلِّمون جيّدًا قرأوا النص الأصلي في الـ واشنطن بوست عبر النت، ثمَّ النص الذي تَمَّ تهذيبه، وشعروا بالغضب متسائلين: لماذا يحق للقراء الأمريكان معرفة آراء مسؤولين سعوديين عن بلدهم، ولا يحق للقراء السعوديين معرفة الكلام المنشور نفسه في أمريكا؟ أقصر وأسرع جواب لهذا التساؤل المشروع هو أن هناك دائمًا فرقًا واضحًا ومتعارفًا عليه بين ما يستطيع المسؤول السعودي قوله في الخارج وما يصلح للاستهلاك المحلي (Domestic Consumption) وهو الفرق المعروف نفسه بين تصرَّفات بعض أفراد الشعب السعودي المتهورة واللا أخلاقيَّة عندما يسافرون إلى الخارج للسياحة، وبين تصرفاتهم (المحافظة) في الرياض أو جدة.

وكونه زعم في الـ واشنطن بوست، أن الإعلام السعودي يتمتع بحريَّة أكبر من الماضي، وهذا بالطبع، هو هدف المقالة المهمة في صفحة الرأي في الـ واشنطن بوست. والمفارقة الطريفة كانت قيام الصحيفة، بهدم وتقويض هدف المقالة بعدما قامت بمراقبتها والحذف منها في ترجمتها المبتورة!

(4) حقيقة الرقابة في السعوديَّة

عندما يُضغط على معظم المحررين ليقولوا شيئًا.. أيّ شيء علانية عن الرقابة القاسية على الصحافة في السعوديَّة، فإنَّهم يميلون إلى الزعم أن الرقابة ليست بسبب خطوط حكومية حمراء، بل بسبب تردد وعدم شجاعة وجرأة ومبادرة رؤساء التحرير أنفسهم لاستغلال فرصة الحريات الممنوحة لهم بالفعل.

ومثل هذا الزعم غريب حقًا لأول وهلة؛ فقيام وزارة الإعلام بوضع خطوط حمراء لبعض الموضوعات الحساسة مثل نقد الحكومة أو المؤسسة الدينية، يجب أن يكون مثيرًا للقلق وعدم الراحة. وبالمثل القول: إن الحكومة (تمنح) حريات. ولكن الاعتراف أن ليست جميع الحريات يتم استغلالها هو، في الحقِّيقة، أمر عجيب وغريب إلا عندما نعتقد فعلاً بأن من حق الحكومة (منح)، ثمَّ (سحب) الحريات الصحافية، وأن رؤساء التحرير، مثل جميع الصحافيين السعوديين، يعملون بحسب رغبة الحكومة.

ولذلك، فإنَّ الجواب الموحد لرؤساء التحرير عن لوم الرقابة والمستوى المتواضع للصحافة السعوديَّة، يكمن بصدق مثل أيّ إجابة أخرى يمكن إعطاؤها (أي لا يوجد عذر مقبول مهنيًا!) وهناك أدلَّة كثيرة لدعم هذا التحليل.

رسالة وملاحظات الكاتب لم تترك مجالاً للشكِّ. أن الرقابة على مقالته ليست من وزارة الإعلام، بل من الجريدة نفسها التي قامت بدور الرقيب. وكان الرقيب الحقيقي، كما علمت من مصادري الخاصَّة، هو محرر مخضرم قديم! وعندما نشرتُ أنا مقالة بعد تلك الحادثة في جريدة ذي إندبندنت البريطانية، عن شأن سعودي حساس، علمت أن المحرر المخضرم القديم نفسه، هو الذي اتصل بالرياض ليبلغهم أنني تخطيت الخط الأحمر. وهذا التبليغ الكيدي من واجبات السفارة السعوديَّة في لندن، التي كان الأمير تركي يشغل فيها منصب السفير وقتها، وليس من واجب ذلك المحرر المخضرم!

ونتج من تلك الشكوى، إرغامي على توقيع تعهد بعدم كتابة مثل تلك المقالة، ونجوت من فصلي من العمل وطردي على أول طائرة، لأن رئيسي قدم لوزارة الإعلام ترجمة دقيقة لمقالتي في ذي إندبندنت البريطانية، أفضل من الترجمة الرديئة والكيدية التي قُدمت للوزارة.

(5) من يعرف أكثر عن السعوديَّة؟

ولكن حادثة مقالة الواشنطن بوست، لها عواقب ونتائج عريضة أكثر مما قد يبدو للوهلة الأولى. ولذلك أن المثقفين السعوديين يشيرون إلى مفارقة مهمة وصحيحة وهي أن القارئ الأمريكي العادي يعرف من صحافته عن أوضاع السعوديَّة أكثر من المواطن السعودي!

ومن القضايا التي تغطيها الصحافة الأمريكية الجادة دائمًا عن السعوديَّة هو الحوار الدائر بين التيارات الفكرية في السعوديَّة والوضع الاقتصادي، والعلاقات مع الولايات المتحدة. ورؤية السعوديين لأنفسهم ورؤية الآخرين لهم. وبينما هناك حوار ونقاش مستعر في الصحافة الأمريكية عن مستقبل السعوديَّة، فإنَّ الحوار والنقاش في الصحافة السعوديَّة على الأغلب ليس سوى انعكاس رديء لما يقال في الخارج.

وفي الحقِّيقة، بعض أبرز الكتاب السعوديين (والعرب) يردّدون بعض ما يكتب في الخارج على أساس أنّه من أفكارهم، أو يعيدون كتابة النقد الخارجي بهدف تفنيده بحماس وطني أو ديني متقد!!

ونظرًا إلى كثرة النقد الخارجي، صار من المسموح للصحافيين والكتاب السعوديين إعادة كتابة ما يقال عن السعوديَّة في أمريكا مثلاً، بالرغم من كون مثل ذلك النقد غير مسموح في الصحافة السعوديَّة، ولكن العرف العام سمح بهذا طالما هناك نية لتفنيده. والنتائج ليست تمامًا بحسب المأمول. لأن مثل تلك المقالات التي تنقل النقد الخارجي أصبح ينتج منها - من دون قصد كُتابها - دعم المقولات النقديَّة الخارجيَّة وترسيخها بصورة (لا شعورية) إن لم يكن تأكيدها عن طريق النفى الذي يفهم عكسيًا في السعوديَّة وكذلك في معظم الدول العربيَّة! وهذا بالتالي، غذى ما يُعدُّ سابقًا تابوهات نقدية في الخطاب السعودي المحلي: وهي طريقة غير مباشرة بل مخادعة وثعلبية لإدخال نقاشات نقدية جدلية في صحافة الدول التي تخضع للرقابة الإعلاميَّة الشديدة.

د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com