Saturday 01/03/2014 Issue 430 السبت 29 ,ربيع الثاني 1435 العدد
01/03/2014

الكبار

تأخذنا المفرداتُ نحوَ (الكبار) عندما يرحل عن عالمنا كبيرٌ، والكبير بيننا ليس بطول عمره أو حجم منصبه، إنما بما أضافه من إبداع لهذا الكون وما التزم به من مواقف جعلت منه مثلاً أعلى لأجيال تتنامى بحضوره وتتوالى من بعده ..

أنسي الحاج، اسمٌ كبيرٌ بين الشعراء العرب الكبار في عصرنا حتى وإن اختلف عنهم بنثرية قصيدته إلا أن الكل يجمع على احترامه واحترام قصيدته وأحياناً يعترف بعضُ شعراء قصيدة الإيقاع (عمودية أو تفعيلية) بأنهم من المتأثرين جداً بشعرية أنسي الحاج الاستثنائية في نثريتها الإبداعية وأبعادها الرمزية المتفوّقة..

رحيل أنسي الحاج، الأسبوع الماضي، أعاد إلى ذاكرتي موقفاً رائعاً لمسته في إحدى أهم محطات تجربتي الشعرية، فبرغم إقامتي لسنوات طويلة في بيروت لم ألتق به يوماً، ربما لأنني لستُ ممن يسعون إلى الالتقاء بالرموز، غير أن الصديق الشاعر والإعلامي اللبناني لامع الحر كان على موعد مع رمزين هما في القمة من رموز الشعر العربي في لبنان: شوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج.. من أجل تحقيق صحفي كان يجريه حول هذين الرمزين ربما، وأخبرني أن الشاعرين الكبيرين ليسا على وفاق مع بعضهما في الوقت الحالي (كعادة الكبار في الاختلاف مهما طال بهم الاتفاق، ومن ثم التصالح مهما يطل بهما الجفاء!) وصادف تلك الفترة صدور أحد دواويني الشعرية عن إحدى دور النشر هناك، فاقترح عليّ أن أهدي لكل منهما نسخة من ديواني الجديد وهو سيأخذ كل نسخة إلى صاحبها، فقد كان موعده مع شوقي أبي شقرا في بيته ومع أنسي الحاج في مكتبه، وهكذا كان..

بعد أسبوع تقريباً اتصل بي العزيز لامع وأخبرني أن أطالع جريدة (البناء) اللبنانية، فطالعتها لأجد مقالة طويلة بقلم شوقي أبي شقرا تحتفي بديواني احتفاء الكبار، وتطرب له وبه الطرب الذي جعلني أزداد اعتزازاً بتجربتي الشعرية التي لا يغادرها الإيقاع إلاّ إلى إيقاع. قلتُ في نفسي: ربما لأن الشاعر شوقي أبي شقرا كان من مبدعي الشعر المنضبط إيقاعياً قبل أن ينقلب عليه ثائراً ويساهم – عام 1957 - هو ورفيق دربه أنسي الحاج مع أدونيس ويوسف الخال في تأسيس (مجلة شعر) المدرسة المتجاوزة في قصيدة النثر؟ أو ربما لأن له مقالات قديمة ومتجددة عن ضوابط العروض والقوافي وفنون الإيقاعات وأسرار لغة الشعر لذلك كان احتفاؤه بقصائدي الإيقاعية مبهجاً؟ أو ربما لأن شوقي أبي شقرا هو المرشد الجمالي واللغوي لجماعة مجلة شعر – كما وصفه الشاعر الراحل محمد الماغوط؟ وماذا عن الشاعر أنسي الحاج؟ هل لأنه لم يقترب من الإيقاع الشعري في قصائده وابتدأ بقصيدة النثر فكان رائدها مصدراً أول ديوان في قصيدة النثر العربية – عام 1960 - سوف لا يجد في ديواني النابض بالإيقاعات ما يستحق الاحتفاء؟!

أخذتُ في اليوم نفسه جريدة النهار أيضاً أطالعها، فأنسي الحاج بكل تمرّده الإبداعيّ وتفرّده في كسر المألوف كان رئيس تحريرها – وهي أكبر صحيفة في لبنان - ويا للمفاجأة: إحدى قصائد ديواني منشورة مع صورة كبيرة لغلاف الديوان على نصف صفحة من النهار. قلتُ في نفسي: هم هكذا الكبار، فكل منهم يحتفي بالإبداع على طريقته، حتى ولو لم يعرف المبدع معرفة شخصية ولم يكن على انسجام من أيّ نوع مع الخلفية الجغرافية والتاريخية للصورة النمطية التي أتى منها، فالنظرة المبدعة من كبار المبدعين تتجاوز كل الاعتبارات الصغيرة الهشة التي نتركها وراءنا حين نرحل ..

رحم الله الشاعر العربي الكبير أنسي الحاج، فقد كان لإبداعه المدهش الخلاّق ومواقفه الوفية الوافية مع الشعراء بمختلف تقسيماتهم المؤقتة واتجاهاتهم المطلقة انتصاراً للشعر الحقيقيّ دون سواه، بالإضافة إلى زهده المعروف في الأضواء وعزوفه عن المحافل الشكلية الغارقة في البهرجة المبتذلة محققاً الأثر الخالد في قلوب أجيال كثيرة لم أكن أولهم ولن أكون آخرهم ما بقي لمنجزات الكبار من متداولين. وأتوقف عند كلمة قالها عنه رفيق دربه الشاعر العربي الكبير شوقي أبي شقرا، حين كانا في أوج توهجهما الإبداعيّ:

(.. وهو على هذا النحو، كيف يمكن الأوزان والقوافي أن تطيقه وأن تتحمل مخالبه في أسرها، في إطارها؟ وكيف يمكن أنسي الحاج ذاته أن يبقى عند حدود المتعارف عليه، عقلاً وعاطفة وخيالاً، فلا يحيد إلى مسافة شاسعة عن الحدود والإمكانات البصرية والذهنية؟ وكيف يبقى موزونا ومقفى؟! فلا بد من النثر.. وكان نثر أنسي الحاج تلك العاصفة، كان أجنحة فوق أجنحة، فوق أجنحة. وكان به ذلك السفر إلى تحت وفوق وأمام، وإلى اليسار واليمين .. وكان إلحاح أنسي الحاج على النثر أنْ غدا النثرُ جوهراً في الشعر).

* * *

وأختم بقصيدة (الأساور) لأنسي الحاج:

(عرفتُ جدراناً كثيرة..

كنتُ عندما أعجز عن هدمها أنساها، فتنهدم

حتى ظهر هذا الجدار

قال لي: «لن تنساني».

لم أستطع هدمه . لم ينهدم.

يمنعني من المرور. يمنعني من الوقوف.

يمنعني من العودة ..

عرفتُ جدراناً كثيرة لكنْ لم أعرف أقوى.

قال لي لن تنساني رغم أني أستطيع أن أنسى

ولم يقل لي سيهدمني، لكني عرفت من وقفته الواثقة.

خلف هذا الجدار، البيت الذي في أحلامي ..

مناجم الذهب وعباءات الفرح، والمكتوب على الجبين.

خلف هذا الجدار لي جائزة، ولحبيبتي جائزتين ..

وأجراسٌ ستقرع لنا، تنتظرنا كما تنتظر الأساورُ اليدين).

- الرياض ffnff69@hotmail.com