Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد

رحلة مع الفلاسفة (3)

الفلسفة السياسية في كتاب «الأمير» لنيقولا مكيافيللي

تناولتُ في المقالة السابقة أفلاطون من عدة جوانب، على رأسها كتابه الأبرز «الجمهورية»، وتعمدتُ أن يأتي مكيافيللي بعده مباشرة من حيث الترتيب في هذه السلسلة، لسبب بسيط هو أن فلسفته السياسية مناقضة تمامًا لفلسفة أفلاطون.

الفلسفة السياسية الكلاسيكية القديمة كفلسفة أفلاطون وأرسطو راهنتْ على عقل الإنسان، أو لنقل: قدمتْ النظرة إلى الإنسان بصفته كائنًا عاقلا على بقية النظرات، وسعتْ إلى تعزيز هذا فيه، فالواجب والطبيعي عندهم أن يكون عقل الإنسان هو السيد المسيطر على الشهوات والغرائز.

أما عند نيكولو ماكيافيللي أو مكيافيللي أو ميكافيلّي أو ميكافيللي أو مكيافيلي -باختلاف طرق كتابة هذا الاسم- فالغرائز هي المسيطرة قبل كل شيء.. فالحاكم الطيب الذي يتصرف بحكمة ورقي ويظهر الخير والفضيلة والأخلاق الحميدة دائمًا، أو ينتظر من المحكومين ردود أفعال حسنة عاقلة، سيفشل بالتأكيد في رأي صاحبنا؛ لأن الشعب سيعتبره ضعيفًا وبالتالي يحتقره. وسيخدعه خصومه أيضًا ويمكرون به.

هناك بشر قذرون منحطون سمعتهم في الحضيض كما يقال، وهم الذين اشتهروا بالسلوكيات الخسيسة المشينة.. وهناك في التاريخ دول منحطة أيضًا، وهي التي عُرفت بالنوايا والأطماع والجرائم والممارسات السياسية السيئة.. كل ذلك معروف والحديث عنه مألوف؛ أما الغريب الذي قد يلفت الانتباه هو الحديث عن كتب قذرة منحطة أيضًا.. فهل هناك حقًا كتب سيئة السمعة؟!

حصل كتاب «الأمير» الذي ألفه المفكر الإيطالي مكيافيللي على هذه السمعة القذرة منذ مئات السنين، لأن اتجاهه المستهجن المقيت، يشرح ويعلّم السياسيين وغيرهم فنَّ الخسّة، ويبرر السلوكيات الذميمة وإتيان الفضائح مهما بلغت من الدناءة والحقارة، بشرط خدمتها للسلطة والمنفعة الشخصيتين.

ولذلك ظل مصطلح «المكيافيللية» في نظر الكثيرين وصمة عار مخزية حتى اليوم، يُسَبُّ به من يمارس السلوكيات المشينة أو يسلك المسالك الرديئة المستقبحة التي بررها وأوصى بها ميكافيلي، وخاصة في المجال السياسي.. ويروى أنهم طلبوا من مكيافيللي أن يلعن الشيطان ويتبرأ من كتبه، فقال: ليس هذا الوقت المناسب لاكتساب الأعداء!.

لقد كثر الكلام عن هذا الكتاب الذي يُدرَّس في أغلب الأقسام السياسية في جامعات العالم، والذي قرأه -وربما حفظه عن ظهر قلب- كل رجال السياسة والحكام، لا سيما الذين عرفوا بالجبروت والدناءة وانعدام المبادئ والقيم والأخلاق الحميدة، حتى لو أنكروا ذلك.. لقد كثر الكلام حتى ارتبط اسم هذا الإنسان عند عامة الناس بالصفات الدنيئة، كالخسة والكذب والخداع والمراوغة والتسلق والاستغلال وانعدام الضمير.

وامتد هذا الارتباط إلى عيادات أطباء النفس والأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، فأصبحوا يستخدمون مصطلح «الميكافيلية» لوصف وتشخيص كل مغرور ومحتال وخائن، لا يعترف إلا بالمكر والقوة والمراوغة والأساليب اللاأخلاقية في الوصول إلى الحاجات وتحقيق الرغبات والمطامع.

ظلت سمعة الكتاب سيئة، إلى حد تحريم الاطلاع عليه في كثير من المجتمعات، ومن ذلك أن روما منعته عام 1559م، وأحرقتْ كلَّ النسخ الموجودة منه.. ولكن الحال تغيّر نسبيًا عند حلول عصر النهضة، فبرز بعض المدافعين عن ماكيافيلِّي وتُرجم كتابه، الذي وصل إلى أفضل درجات الاهتمام به في القرن الثامن عشر، عندما أثنى «جان جاك روسو» على كثير من أفكاره، ومدحه «فيخته» أيضًا من عدة جوانب، بل وشهد له هيجل بالعبقرية، حتى اعتبر ماكيافيللي أحد الأركان التي قام عليها عصر التنوير في أوروبا.

وهذا لا يستلزم بالضرورة أن هؤلاء وغيرهم من الفلاسفة الذين أثنوا على بعض أفكار ميكافيللي أو على كثير منها، أو الذين أبرزوا أهميته وتأثيره على الواقع، وخاصة الواقع السياسي في ذلك العصر.. لا يستلزم حديثهم عنه أنهم يتفقون معه في كلِّ شيء.

وبلغ الاهتمام ذروته حين سلب ألباب كثير من الحكام، ومنهم مثلا «بنيتو موسيليني» –حاكم إيطاليا الفاشي- الذي اختار كتاب «الأمير» موضوعاً لأطروحته للدكتوراه.. وكذلك «هتلر» فقد كان -كما يُروى- يقرأ كتاب الأمير قبل أن ينام كل ليلة.. وغيرهم من الملوك والحكام، خاصة الجبابرة الطغاة البعيدين عن الأخلاق والإنسانية والقيم النبيلة.

وخلاصة هذا الكتاب أنه أظهر العمل السياسي عاريًا دون زيادات غيبية أو لاهوتية أو أخلاقية، والموضوع الرئيسي الذي يتناوله الكتاب هو: كيف يمكن أن تكون السياسة صنعة فعّالة؟ ما الواجب على الحاكم ليحقق النجاح ويحافظ على سلطته؟!

بدأتْ مع مكيافيللي الفلسفة السياسية في العصر الحديث كما يرى البعض، التي ترى أن الدولة كيان تنظيمي أنجزه الناس بأنفسهم. وتحاول النظر إلى السياسة بلا نظارة الأخلاق، على الرغم من أن ماكيافيللي ذاته لم يكن في ذلك غير أخلاقي، إلا أنه كان يترك الأخلاق في فلسف ته خارجًا أمام الباب، دون التشكيك فيها بصورة مباشرة متعمدة واعية.

يعتبر ماكيافيللي مخترع التعاليم السياسية للحكام، وتقوم تعاليمه على الخبرة والتجربة، وقد استقى نظرته السياسية من الأحداث السياسية في عصره من جهة، ومن الوقائع التي رواها المؤرخون من جهة ثانية.

مر بتجارب قاسية كالسجن والنفي والتعذيب، ولكن ولادته الحقيقية كفيلسوف سياسي كانت في المنفى، حيث تفرَّغ للقراءة وإعداد مذكراته الكثيرة التي يأتي على رأسها ما نحن بصدده وهو كتاب «الأمير»، الذي بدأ في تأليفه في النصف الثاني من عام 1513م، وانتهى منه في عيد الميلاد من نفس العام.

القيم الأخلاقية عنده لا تناسب الأمراء في عملهم السياسي؛ لأنهم لا يعيشون في عالم الملائكة، بل في عالم التآمر والحقد والصراع على السلطة.. يقول مثلا في كتابه: «لهذا يجب على الأمير الذي يريد أن يحافظ على مكانته، أن يكون قادرًا على العمل غير الطيب، وأن يكون قادرًا على فعل الخير وتركه حسبما تتطلب الظروف».

ليس له صلة بالأمير الكامل أخلاقيًا، أو الملك الحكيم الفاضل الفيلسوف المؤدب الصالح، الذي حلم به أفلاطون وغيره، بل كان ميكافيللي ينظر إلى أرض الحقيقة والواقع فقط. وكان يقول:»إني أترك التخيّلات عن الأمراء وأتحدث عن الواقع».

في نظرية مكيافيللي ينبغي على الحاكم الذي يرغب في النجاح أن يتجه إلى غرائز الإنسان لا إلى عقله، فيعزف عليها بإتقان كما يعزف الإنسان على آلة موسيقية.

للفلسفة السياسية عند ماكيافيلي مصطلحات كثيرة، من أهمها -مثلاً- مصطلح «حسن الحظ» وتكرر هذا المصطلح عند حديثه عن الاستيلاء على الحكم، وأنه فضيلة وقوة وانتصار مهما كانت الأسباب، ويحتاج مخاطرة عالية، ويحتاج مهارة فائقة، تظهر مثلا في الاستيلاء على الحكم بمساعدة قوة أجنبية، أو بمساعدة القدر، أو بـ «حسن الحظ».

والخلاصة هي أن سياسة مكيافيللي سياسة انتهازية، لا تعترف إلا بالمنفعة والمصلحة، ولا مكان فيها للأخلاق أبدًا؛ فكل مفيد ضروري عنده مهما بلغ من الخزي والانحطاط، والغايات تبرر الوسائل في كل الأحوال.

وفي هذا العصر الذي أكثر فيه السياسيون والمهتمون بالسياسة من استخدام مصطلح «الفوضى الخلاقة»، يحسنُ بنا أن نشير إلى أن مفهوم هذه النظرية تكرر عند ميكافيللي بعدة أساليب، إلى الحد الذي جعل بعض الباحثين يعدّه مؤسسًا لهذه النظرية، ومن ذلك قوله مثلاً في كتابه الأمير:

«الشجاعة تُنتج السلم، والسلم يُنتج الراحة، والراحة تتبعها فوضى، والفوضى تؤدي إلى الخراب، ومن الفوضى ينشأ النظام، والنظام يقود إلى الشجاعة».

كما تجدر الإشارة إلى أن التاريخ سجّل لمكيافيللي أنه كان من أوائل الفلاسفة الذين طالبوا –بقوة ووضوح وجرأة- بإبعاد المؤسسة الدينية عن الحكم، رغم شدة الخطر الذي يحيط بمن يطالب بمثل هذه المطالبة في تلك العصور.

وأختم ببيتين رائعين لفيلسوف المعرّة وأديبها الكبير أبي العلاء، الذي فهم أكاذيب السياسة وخسة كثير من السياسيين، واحتقر هذه الاتجاهات السياسية النتنة الموغلة في الرذيلة -رغم أنه سبق ميكافيللي بقرون طويلة- فقال:

يَسوسونَ الأمورَ بغَيرِ عَقلٍ

فينفُذُ أمرُهم، ويقالُ: ساسَهْ!

فأُفَّ من الحياةِ، وأُفَّ منّي،

ومن زمَنٍ رئاستُهُ خَساسَهْ!

وائل القاسم - الرياض