Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد

نحن المستعمَرون .. في ذكرى إدوارد سعيد

المفكر الأديب في اللغة الإنجليزية «إدوارد سعيد» المولود في الأول من نوفمبر..1935م في القدس (فلسطين) قدم للعالم كتباً مهمة كان من أكثرها شهرةً كتابه «الاستشراق» الذي ألفه في عام 1977م.

جوانب كثيرة من كتابه جرى الحديث عنها ونقاشها.. ومجالات مختلفة من أفكاره وملاحظاته كانت فتوحاً فكرية ونقداً ذكياً.. حاول فيه إدوارد أن لايبدو كشخص عربي يعيد لحظة الانتماء.. ولكن كمفكر غربي أمريكي يقدم نقداً ذاتياً عالي الجودة والذكاء.

كانت ملاحظة مهمة للصديق أحمد اليعربي الذي نبهني في حوار فكري إلى أن إدوارد سعيد تقصّد التأكيد على أن إدوارد لايقدم هذا النقد الشامل لعمليات الاستشراق كـ «شرقي» ولكن يقدمه كمفكر أمريكي خريج الجدل الثقافي الغربي ونقده ومجالاته واهتماماته. وبالطبع هذا الشيء أعطى نقده بعداً أكبر وأهم في الثقافة الغربية.. وأعطاه مصداقية أكبر لأنه الإنسان الأمريكي الغير مسلم الذي يتحدث عن الدراسات المخصصة للشرق.

إدوار سعيد نظر للاستشراق كمجال أكاديمي يحمل افترضية مسبقة بتفوق الغرب ومركزيته..وبالتالي يبحث ذلك الشيء الذي سماه المستشرقون «الشرق» الذي أثار اهتمامهم.. فيأخذوه للدراسة كما يأخذون أي شيء مثير في الحياة.. ويضعونه على المشرحة..ويجرّبون عليه خبراته وإمكاناته وأمراضه وعقده النفسية.. وحلوله وعلاجاته.. كمايفعلون مع «فأر التجارب»!.

الاستشراق بهذا المعنى هو الرديف الأكاديمي والبحثي للاستعمار والاحتلال.. هو الطبعة الثقافية للاحتلال والإمبريالية.

منذ أكثر من ثلث قرن ألّف سعيد كتابه ذلك بعد قراءة مهمة وشاملة للكتابات عن الشرق والعرب والثقافة العربية.. ولاتزال لليوم مئات المقالات والأعمدة والصحف والكتابات والكتب والأفلام والصور والمشاركات تتعامل مع «الشرق» و»الإسلام» و»العرب» كهامش جغرافي وثقافي لايستحق إلا أن يكون محطة تافهة للتجارب العلمية والثقافية والطبية لا أكثر.

قد تبدو الآن أن العديد من ملاحظات إدوارد سعيد في بعض جوانب الكتابات الأكاديمية في الغرب عن الشرق مألوفة لحدٍ ما.. لكننا نتحدث الآن عن أكثر من ثلث قرن كان تأثير كتاب إدوارد سعيد مهماً وحاسماً في العديد من المجالات.

الشيءُ الذي أثارني في الكتاب وهزّني..هو تلك الملاحظة الذكية جداً..حول تلك الصور النمطية التي بثًها الغرب عن الشرق والعرب والإسلام.

إدوارد يقول بأن الغرب بثّ صوراً معينة عن الشرق.. صوراً نمطية تبسيطية وساذجة ومنحازة وظالمة..وأحياناً صوراً ليس لمايكون بل عن «المتوقع» وعمايظنون أن الشرق والإسلام والعرب سيكونونه بعد فترة ما.. أو عما أستطيع تسميته بالخيال العلمي للشرق.. وعمايريدون للشرق أن يكونه.

وبالتأكيد فهذه صور ظالمة ومنحازة وسيئة..وقل ماشئت..ولكن هذه الصور لم تكن فقط هي الصورة النمطية التي قدمها الغرب لأبنائه كي يفهموا الشرق فحسب.. بل الأخطر من كل ذلك والأشد كارثية أن تلك الصور النمطية والقوالب والتوصيفات الثنائية الجاهزة والمفردات الثقافية بحمولاتها وخلفياتها في الغرب..تسربت للشرق نفسه ولأبناءه وحكمتهم في أنفسهم.. وشوّهت صورتهم عند أنفسهم.. وحكمت على علاقاتهم فيما بينهم..وتحوّلت من صور نمطية في الغرب عن الشرق.. إلى صور نمطية في الشرق عن نفسه! وحينما تقدم الدوائر الأكاديمية الشرق في خيالها العلمي ويتم تسريب ذلك للشرق عبر باحثيه وقيادته المستلبة وأكاديمييه والمهتمين والمؤثرين فيه.. تصبح تلك المفردات الغربية تحكمنا في معرفتنا بأنفسنا وتسيطر علينا.. وتحكم مستقبلنا.. بل وتجعلنا مستلبين.. نطبق ذلك الخيال العلمي الغربي عن أنفسنا ونتعامل معه كقدر لازب لايمكن أن نحيد عنه ولا أن نتحفظ عليه.

المفردات التي نصنف بها أنفسها ونعرف أنفسنا في الشرق أو نعرف الآخرين.. ومستقبلنا الذي يحمل الجراثيم النمطية المخيفة.. كل تلك الأشياء التي بثها الغرب في أنفسنا تحكمنا ونتعامل معها بكثير من التسليم والاستلاب.. بينما هي عملية استعمارية بامتياز.. تمارس ذات الدور الثقافي والأخلاقي.. وتريد تحويل الشرق والعرب والمسلمين بثقافتهم إلى معامل رخيصة وتافهة للخبراء الغربيين يمارسون عليه تجاربهم وأشغالهم.. بينما نحن بخبرائنا ومثقفينا وفقهائنا.. وتجاربنا نمارس دور الترجمة والتسليم والاستلاب والتعامل بشكل سلبي مع تلك المفردات الجاهزة.. ومع تلك التصنيفات الجائرة.. ومع تلك الأحكام الظالمة لأنفسنا.

هذا كان أخطر ماقدمه أدوار سعيد في كتابه حسب تقديري.. لأنه يخبرنا كيف أن الاستعمار ورديفه الثقافي لم يشوهنا عند الغرب وإعلامه ومراكزه الأكاديمية وباحثيه فحسب.. ولكن أهم وأخطر من كل ذلك شوّهنا عند أنفسنا.. وشوّهنا عند دورنا البحثية والأكاديمية.. وعند أبنائنا.. وعند أنفسنا، والله لايغير واقعنا بسبب مايراه الآخرون فينا.. ولكن بسبب مانراه في أنفسنا {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (11) سورة الرعد.).

عبدالله العودة - الولايات المتحدة abdalodah@gmail.com