Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد

مختارات من كتاب مترجم صدر للتو: (1-2)

من قتل رفيق الحريري؟ .. أو هكذا أثبت الشهيد وسام عيد أن حزب الله اغتال الحريري

تقديم حمد العيسى :

صدر قبل بضعة أسابيع من إعداد وترجمة وتعليق كاتب هذه السطور كتاب «من قتل رفيق الحريري؟.. أو هكذا أثبت الشهيد وسام عيد أن حزب الله اغتال الحريري»، (مدارك للنشر، 244 صفحة وسط، 2014). والكتاب عبارة عن تحقيق استقصائي للصحافي الكندي البارز نيل ماكدونالد.. نيل ماكدونالد هو كبير مراسلي هيئة البث الكندية (سي بي سي) السابق في الشرق الأوسط (1998-2003).. حصل عام 2004 على جائزة غميني الكندية للتحقيق الاستقصائي.. ونشر هذا التحقيق المثير والكاشف عن مقتل الحريري بتاريخ 21 نوفمبر 2010، على موقع (سي بي سي) الإلكتروني.

تمهيد:

الجريمة وثورة الأرز وانسحاب سوريا

لقد استغرق الأمر حتى أواخر عام 2007، لكي تباشر لجنة التحقيق الدولية المستقلة وذات الاسم المعقد التابعة للأمم المتحدة بالفعل بعض التحقيق الجدي.. عندها، كان قد مر ما يقرب من ثلاث سنوات منذ الاغتيال المذهل لـ رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان السابق.. نعم، اغتيال الحريري الباني، والملياردير الذي أعاد بناء تراث بيروت المعماري بعدما دمرته الحرب الأهلية، وجعل مهمته استعادة مركز لبنان التجاري، ليكون مجدداً مقر قيادات الأعمال في المنطقة.. نعم، الحريري اللبناني الوطني الذي امتلك الشجاعة للوقوف ضد سوريا(*) التي كانت تحتل لبنان منذ وقت طويل، والذي كان يُعتبر المُصلح الأكثر أهمية في الشرق الأوسط.

التفجير الضخم الذي قتله في 14 فبراير 2005، أطلق العنان لقوى لم يعرف أحد أنها موجودة.. لقد بدا أن الشعب اللبناني كافة انتفض في أعقاب تلك الجريمة، ليشير بغضب إلى المحتل السوري.. كان الافتراض المعقول هو أن الحريري قُتل لمعارضته دمشق.. وأنجز غضب لبنان بسرعة ما فشل في تحقيقه زعيمه المقتول أثناء حياته.. لقد أدى الاغتيال إلى ما سُمي بـ «ثورة الأرز»؛ أي حدوث إجماع سياسي لبناني نادر.. وسحبت سوريا - المذعورة من الغضب الجماعي - قواتها.

وفي الأمم المتحدة، حثت فرنسا والولايات المتحدة مجلس الأمن، لإيفاد لجنة تحقيق خاصة.. ولبعض الوقت، بدا الأمر في الواقع أن لبنان كان يتحرك نحو حكم القانون وديمقراطية حقيقية.. ولكن بحلول نهاية عام 2007، انحسرت الآمال.. لم يقبض على القتلة.. وكانت سوريا تعيد تعزيز نفوذها تدريجياً.. وأيضاً استمرت الاغتيالات لشخصيات لبنانية بارزة أخرى.

وفي البيت الأبيض، بدأ كبار المسؤولين في الإدارة يستنتجون أن عيوب الأمم المتحدة البنيوية الشهيرة ستؤدي إلى لا شيء.. واتضح أنهم كانوا على حق.. ووجدت سي بي سي، بعد تحقيق طويل امتد لأشهر بالاعتماد على مقابلات مع مصادر متعددة من داخل فريق الأمم المتحدة وعلى بعض سجلات اللجنة الخاصة، العديد من الأمثلة المخجلة، للجمود البيروقراطي ولعدم الكفاءة المماثلة للإهمال الجسيم.

ومن ضمن أمور أخرى، علمت الـ سي بي سي أن:

• الأدلة التي جمعتها الشرطة اللبنانية، وبعد ذلك بكثير، لجنة الأمم المتحدة، تشير بصورة مؤكدة إلى أن القتلة هم من «حزب الله»، وهي المليشيا التي ترعاها سوريا وإيران.. «سي بي سي نيوز»، حصلت على وثائق تحتوي على أدلة الاتصالات الخليوية والهواتف الأخرى وغيرها التي تُعتبر جوهر القضية.

• محققو الأمم المتحدة يعتقدون بأن سرية التحقيق اخترقت في وقت مبكر من قبل حزب الله، وأن التراخي الأمني في اللجنة أدى - على الأرجح - إلى اغتيال ضابط لبناني شاب استطاع حل لغز القضية بنفسه، وكان يتعاون مع لجنة التحقيق الدولية.

• هناك في لجنة التحقيق من يشتبه برئيس البروتوكول لدى الحريري في ذلك الوقت، والرجل الذي يرأس جهاز الاستخبارات في لبنان (العقيد وسام الحسن) بالتواطؤ مع حزب الله.. وكانت تلك الشكوك قد وضعت في مذكرة داخلية مسهبة، ولكن لم يتم التحقيق في تلك الشكوك لأسباب دبلوماسية كما سيرد لاحقاً.

اكتشاف الموبايلات المستخدمة في الجريمة

في الأشهر الأولى، كان تحقيق الأمم المتحدة يبدو بالفعل واعداً.. المفوض الأول، (أي رئيس اللجنة) وهو قاضٍ ألماني اسمه ديتليف ميليس، أصدر بسرعة تقريراً نارياً يشير إلى أن سوريا قد أمرت بـ - إن لم تكن قد نفذت فعلياً - الاغتيال.. واعتبر ميليس أن العملية نفذت بواسطة عملاء مجهولين.

ولكن خليفة ميليس، وهو مدعي عام بلجيكي اسمه سيرج براميرتز، بدا أكثر اهتماماً بتلافي الجدل من القيام بتحقيق جدي، على الأقل بحسب رأي أناس عملوا معه.. وتحت قيادته، قضت اللجنة معظم وقتها في تعقب ما اتضح لاحقاً، أنها معلومات كاذبة ودحض لنظريات مؤامرة واسعة النطاق.. وهذا لا يعني أن اللجنة لم يكن لديها بعض المحققين الجيدين، بل على العكس؛ ففي الواقع، كان لديها بعض من أفضل العناصر التي يمكن لهيئات الشرطة الغربية أن تقدم لهذا العرض.. ولكن لم يمكن إقناع براميرتز أن يأذن باستخدام التقنية الوحيدة التي يريد استعمالها هؤلاء المحققون قبل أي شيء آخر: تحليل الاتصالات الهاتفية، وهي التقنية التي تُعتبر - على الأرجح - أهم أداة لجمع المعلومات الاستخبارية في العصر الحديث.. تحليل الاتصالات الهاتفية يتطلب استخدام أجهزة كمبيوتر ذات قدرات جبارة وبرمجيات متطورة للغاية لنخل وغربلة ملايين المكالمات الهاتفية، بحثاً عن أنماط متكررة وأوضاع معينة لتحديد شبكات وروابط مشتركة.. الشرطة تطلق عليها تيليكومس (Telecomms)، والمخابرات تسميها سيغينت (SIGINT).. إنها تؤدي إلى إدانات في المحاكم كما تؤدي أيضاً إلى هجمات صاروخية في أماكن، مثل أفغانستان واليمن.

ولكن من العجيب أن لجنة الأمم المتحدة في لبنان لم تقم بأي تحليل للاتصالات الهاتفية على الإطلاق خلال السنوات الثلاث الأولى من وجودها.. ولم يُقترح ذلك إلا عندما اقترب براميرتز من نهاية فترته، عندما حثه أحد المحققين بالسماح للجنة بالتحقيق الجدي عبر فحص سجلات الهاتف.

الاكتشاف المذهل.. زلزال

بعد تلك النقطة، في أكتوبر 2007، بدأت الأمور تتحرك بسرعة.. ونجح محققو اللجنة فعلاً في الحصول على بيانات عن كل مكالمة هاتفية حصلت في لبنان في عام اغتيال الحريري - كانت كمية هائلة من البيانات -، وتم التعاقد مع شركة بريطانية تُدعى إف. تي. إس. (FTS) لإجراء التحليل المتخصص.. وصل موظفو اللجنة الليل بالنهار لإدخال البيانات في برنامج يُسمى آيبيس (IBASE).. ثم، في ديسمبر، بدأ خبير من (FTS) بفحص ما أنتجه الكمبيوتر.. وفي غضون يومين، دعا الخبير محققي الأمم المتحدة لاجتماع.. لقد تعرف على شبكة صغيرة من الهواتف النقالة، عددها ثمانية، كانت تتبع الحريري كظله في الأسابيع التي سبقت وفاته.. وكان هذا الاكتشاف المذهل أكبر إنجاز تحققه اللجنة منذ تشكيلها وبمثابة «زلزال» على حد تعبير أحد المحققين الذين كانوا في غرفة الاجتماع في ذلك اليوم.. الشبكة التي اكتشفها الخبير البريطاني لم تكن سوى فريق الاغتيال الذي قتل الحريري، أو على الأقل تلك الموبايلات الثمانية، كان يحملها القتلة.. وللمرة الأولى، أصبح بإمكان محققي اللجنة التحديق مباشرة في خصمهم.. ولكن المشكلة هي أن آثار الجريمة كان مضى عليها ما يقرب من ثلاث سنوات الآن، وهي مدة أطول بكثير من «الساعة الذهبية» لحصاد أفضل الأدلة والقرائن.

النقيب وسام عيد.. أثبت أن حزب الله اغتال الحريري قبل وصول لجنة الأمم المتحدة

وبالرغم من ذلك التأخير، فقد كان اكتشافاً مذهلاً وخارقاً يحسب للجنة.. وعندما بدأ المحققون بعملية التقصي اللازم (Due Diligence)، ومراجعة عملهم خطوة خطوة، حدث اكتشاف آخر، وكان خارقاً ومذهلاً بصورة مدهشة؛ فقد عثر محقق بالصدفة، وهو يراجع سجلات ووثائق اللجنة على تقرير من ضابط لبناني متوسط الرتبة كان قد أرسله إلى اللجنة التابعة للأمم المتحدة قبل ما يقرب من عام ونصف العام أي في الأشهر الأولى من عام 2006.. لم يكتشف ذلك الضابط في تقريره فقط ما وصفته لجنة الأمم المتحدة في نهاية المطاف بـ «الشبكة الحمراء» (أي الموبايلات الثمانية لفريق الاغتيال)، ولكنه توصل إلى أكثر من ذلك بكثير؛ فقد كشف عن الشبكات التي وراء تلك الشبكة؛ في الحقيقة، لقد كشف عن مؤامرة معقدة ومنضبطة كانت تعمل على الأقل منذ سنة في مرحلة تخطيط، وقام فعلاً بسؤال المشتبه بهم.. لا بل فعل ما هو أكثر من ذلك، لقد اكتشف وأشار إلى المجرم: «حزب الله»، لأن كل ما اكتشفه من قرائن كان يشير إليه.

وكان كل هذا في تقرير الضابط الذي أرسله بتفانٍ لمسؤولي لجنة الأمم المتحدة التي من المفترض أن تكون بينهما شراكة في التحقيق.. ولكن لجنة الأمم المتحدة فقدته فور وصوله!!!

اغتيال بطل وطني مخلص

قبل موته الدموي العنيف في عام 2008، كان وسام عيد، موظفاً غير عادي في العالم الحالك والفاسد غالباً لأجهزة الأمن العربية.. إنه في الواقع لم يكن يريد أن يكون شرطياً، أو ضابط استخبارات أبداً، ولم تكن لديه رغبة في أن يصبح رجل أمن في المجتمع العربي السلطوي.. وبالرغم من ذلك، لم يكن أمامه أي خيار؛ فعندما كان يقوم بخدمته العسكرية الإجبارية في التسعينيات، لاحظ مسؤولو قوى الأمن الداخلي (ISF) اللبناني، أن عيد يحمل درجة في هندسة الكمبيوتر.. وكان جهاز الأمن يحاول تأسيس قسم لتكنولوجيا المعلومات.. وهكذا تم ضمه، ليعمل في الأمن.. «لقد كان رجلاً وطنياً» كما يقول والده محمود، وهو جالس في غرفة المعيشة في منزل العائلة في دير عمار، في ضواحي طرابلس.. يحتوي مركز الغرفة، على الطريقة العربية، على مزار تذكاري صغير لابنهم. صورة الشاب تحدق في الزوار وحولها شهادات عن عيد.. والدته سميرة، محجبة وملتزمة دينياً، والدين يساعد كثيراً أثناء الحزن.

يتبع

** ** **

هوامش المترجم:

(*) ذكرت نشرة إنتيليجنس أونلاين الاستخباراتية (INTELLIGENCE ONLINE) الفرنسية، أن الشهيد رفيق الحريري استطاع تسجيل كلام بشار الأسد، وهو يهدده بالقتل، إذا لم يتم التمديد للرئيس لحود، في آخر لقاء بينهما بواسطة مسجل على شكل قلم أنيق قدمته المخابرات الفرنسية للحريري. انظر الملحق رقم (1) للتفاصيل والنص الحرفي الوحيد بالعربية لتفريغ التسجيل وتهديد بشار الأسد للحريري وجنبلاط بالقتل. المصدر: نشرة إنتيليجنس أونلاين (العدد 507، 16-19 سبتمبر 2005، ص 3). رحم الله الشهيد رفيق الحريري، فقد كان مخلصاً لوطنه وشهماً وكريماً ومحباً لفعل الخير وها هو يثبت عبقريته وشجاعته وجرأته الفذة، ويكشف هوية قاتله حتى بعد وفاته.

ترجمة وتقديم: د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com