Saturday 03/05/2014 Issue 436 السبت 4 ,رجب 1435 العدد
03/05/2014

«مأزق التفاوض بين الثابت والمتحول»(5)

لا أجد أي اعتبار مانع للقول بأن مأزق التفاوض بين الثابت والمتحول هو مصدر كل إشكالية ثقافية بداية من «بزنسة المفاهيم» ومرورا «بصراع ميثاق الشرف الثقافي» ووصولا إلى «جدلية الكينونة الثقافية».

يمكننا في البدء أن نصنف الثابت إلى مرتبتين المرتبة الأولى «الثابت الأحادي» والمرتبة الأخرى «الثابت القابل للتحول» ولا أقصد بالثابت القابل للتحول هو «المتحول في ذاته وطبيعته»، ويقابل تلك المرتبتين المتحوّل والمتحول غالبا ما يرتبط بفاعل الاقتضاء سواء أكان هذا الفاعل خلفيته زمانية أو مكانية أونهضوية او سياسية أو اجتماعية أو اندماجية وكمال الاقتضاء لابد أن يتوافق رضا وقبولا مع التوظيف الواقعي للجماعة أو المجتمع.

وقد يسأل البعض ألا يخضع الثابت الأحادي أو الثابت المشترط بقابلية التحول لذات فاعل الاقتضاء؟

وقد يُجيب البعض بأن الثابت لديه فاعل اقتضاء يتمثل في المدونة التفسيرية والفقهية لعقيدته إذ هما وسيلتا التوافق التوظيفي للاقتضاء الواقعي لقواعد تلك العقيدة، وتوفر تلك الوسيلتين يرفعان عن الثابت تهمة الجمود.

وهو قول مقبول في حده المتوسط ما لم يسيطر على تلك المدونتين منطق حراسهما، فسيطرة منطقهما فيه إلغاء لفاعلية الاقتضاء أو حصرية ضيقة للاستفادة من فاعل الاقتضاء، كما أن المنطق الفئوي هنا لا يحسب ضمن قائمة خلفيات فاعل الاقتضاء؛ الزمان والمكان والنهضة والاندماج والتطور الاجتماعي والسياسي.

ولكن السؤال السابق يدفعنا إلى التوقف أمام ماهية كل من الثابت والمتحول والماهية غالبا لا تنطلق من الواقع كقاعدة لفهمهما إنما تنطلق من «عقيدة الجماعة» وبذلك فنحن أمام قاعدة فهم ثابتة لا متحركة على اعتبار أن كل عقيدة هي ثابت وكل واقع متحرك.

وعليه فلا يمكننا إغفال التساند المرجعي لتأليف ماهية أو اكتشافها أو تعديلها، وتجاوز ذلك التساند المرجعي أو القفز عليه هو الذي يؤدي إلى الصراع بين الثوابت والمتحولات أو يعيق مسألة التفاوض بينهما.

وبذلك فمعرفة الثابت لا يكون إلا عبر تقدير قيمته وتأثيره في عقيدة الجماعة، وضبط تلك القيمة والتأثير يمكن استنتاجهما من خلال مساحة تدخلهما في تأسيس قوانين الثواب والعقاب للمجتمع الرسمية والعرفية ومساحة تدخلهما في تشكيل أدبيات المجتمع.

والأمر كذلك بالنسبة لمعرفة المتحول فلا يمكن التمييز بينه وبين الثابت إلا عبر المدخل المعياري السابق، وهنا يتحدد قبول المتحول أو رفضه من العقيدة الجمعية بقربه من تأييد تلك القيمة وذلك التأثير أو بعده عنهما كمعارض ومضاد.

وبذلك فقبول المتحول مرتبط بعدم إضراره بقيمة أو تأثير على فاعلية العقيدة أو تعطيله للقوانين المؤسَسة في ضوء ثوابت تلك العقيدة.

ترتبط الثوابت بجذور العقائد والحقوق والواجبات، ولاشك أن الثوابت تتسع مساحتها كلما توجهنا إلى المجتمعات الدينية والتوسع هنا مبني على توليد جذور الثوابت وهذا التوليد قد يُنحي ما هو الأصل في الثابت كالحقوق والواجبات لمصلحة ما هو غير أصلي بأثر التوليد.

وتضيق كلما توجهنا إلى المجتمعات العلمانية لتنحصر جذور الثوابت في الحقوق والواجبات ومعادل العقيدة الدينية وهي «العقيدة العلمانية».

ومسألة التوسع والتضييق عادة ما يكون مرجعها مستوى التفاعل مع العقيدة وتأثيرها في الحياة العملية للفرد والمجتمع لتُصبح العقيدة الدينية في المجتمعات العلمانية مجرد مُغتسل روحاني يلجأ له المرء لتطهير ذاته من ضغط العلمانية العملية وتلجأ له المجتمعات إذا عجزت القوانين المؤسَسة في ظل العقيدة العلمانية في ضبط التطرف الانحرافي للأفراد مع فاعلية العقيدة العلمانية كمؤسِس من مؤسِسات جذور الثوابت في المجتمعات العلمانية، وبذلك تُصبح العقيدة في تلك المجتمعات مُنقذ الأزمات التي تعجز عنها القوانين.

في حين أن المجتمعات الدينية يختلف الأمر فيها أي موقف الفرد والمجتمع بالعقيدة، فالعقيدة رفيق روحاني ملاصق للفرد بل جزء منه بل هو جزء منها، وتبني المجتمعات الدينية أسس قوانينها في ضوء تشريعات عقيدتها.

وبذلك يُصبح كل من «الدين والعلم والحقوق والواجبات» هما المراجع الأساسية لجذور الثوابت، ومنهم يتفرع المتحولات.

قد يرى البعض غرابة في تفرع المتحول من ثابت في حين الأمر البدهي هو تفرع الثابت من الثابت، وتفرع المتحول من المتحول.

وقد تنتفي الغرابة لو علمنا أن كل ثابت أحادي يحتوي على ثابت قابل للتحول ومتحول.

ولنبدأ من الدين؛ مركز إنتاج الثوابت في المجتمعات الدينية.

ما هو الدين؟ هو مجموعة من الأفكار والتشريعات والعبادات، والأفكار حتى يمكن فهمها وتداولها لابد أن تُصبح تشريعات والتشريعات حتى تُصبح قابلة للفهم والتطبيق والتحفيز لابد أن تتحول إلى ممارسات أو عبادات.

والعبادة كل فعل وقول يمثل تشريعا بصورة قصدية ؛وهذا التعريف للعبادة ليس حصريا بتشريع مخصوص للديني؛ إنما هو تعريف ينطبق على كل تشريع ديني أو غير ديني، باعتبار التشريع هو مجموع القوانين الداعمة لفكرة أو مجموعة أفكار ينفذها الفاعل قولا وفعلا بقصدية.

وهنا نحن أمام «ثلاثة مكونات» للعقيدة؛ الأفكار والتشريعات والعبادات، ويمكن تصنيفها من حيث قاعدة الثابت والمتحول كالآتي؛ الأفكار تُحسب غالبا ضمن الثابت الأحادي والتشريعات تُحسب غالبا ضمن الثابت القابل للتحول بضرورة الإضافة والتجديد والتحديث والتطوّر أو مانسميه «فاعل الاقتضاء»، والعبادات تُحسب غالبا ضمن المتحول بضرورة الاكتساب النهضوي أو «فاعل الاقتضاء».

هل هذا التدرج يمكن تطبيقه أيضا على «العلم» كعقيدة للمجتمعات العلمانية، أو شبه عقيدة عند العلمانيين في المجتمعات الدينية؟.

يمكن تطبيقه بلاشك مع اختلاف أن الأفكار تُحسب غالبا ضمن المتحول في العقيدة العلمية لأنها مرتبطة في ذاتها بمتحول البحث والاكتشاف والتجريب.

إن الأفكار هي مصدر «الصراع» دائما، والعلم كونه مرتبط بحركية نظريات البحث والاكتشاف فأفكاره قابلة للتغير والتغيير وبالتالي فهي ممثلة للمتحول، في حين أن الدين كما قلت سابقا أفكاره «ثابتة»غالبا فهو ممثل للثابت الأحادي.

والصراع بينهما يبدأ عندما يحاول العلم أن يفكك أفكار الدين من قيود الثبوتية الأحادية كي يتوافق معه، ويكتمل ذلك الصراع عندما يحاول الدين أن يضبط توجه أفكار العلم لتتفق مع أفكاره الثبوتية وإن خالفت نتائج البحث والتجريب.

إن المجتمعات الدينية تعترف بأفكار النظريات العلمية والفكرية والمعرفية والنهضوية وتطبيقاتها مادامت تتوافق مع أفكار دينها، وهي لا تشترط توافق أقصويّ بل توافق في حد المتوسط الذي يقبله عقل وقلب الأفكار الدينية أو من ينوب عنها، بحيث يظل العلم مساندا وداعما لصحة أفكارها وتوثيق سلطتها.

كما يستفيد الثابت الديني دوما من أخطاء العلم لتعزيز ثبوتيته وهذا ما يزيد من مأزق الصراع بينه وبين المتحول العلمي ويُصعّب البحث عن طاولة موضوعية للتفاوض بينهما.

أما إذا كان المتحوّل العلمي أو المعرفي أو الفكري يهدد قاعدة الثابت الأحادي أو من ينوب عنه، حينها تتحرك المدونة الفقهية لإصدار أحكام تدعمها القوانين المؤسَسة في ضوء الثابت الأحادي بحرمانية المتحول وتجريم مُصِدقه وفاعله.

هناك غالبا طريقتان للحكم على سلامة المتحول والثابت؛ الطريقة الأولى تتعلق بالخصائص والطريقة الثانية تتعلق بالآثار.

وسواء الحكم بالخاصية أو الحكم بالأثر لابد من مراعاة ثلاثة شروط ؛التناسب مع الطبيعة ؛ والمقصود هنا بالطبيعة المحافظة على «سوية الأصل»مما لا «يُحرّف خصائصها أو يمسخّها « والشرط الثاني والتوافق الجمعي وتحصيله هو ضابط حماية وأمن؛لأن التوافق الجمعي هو مؤشر على سلامة المتحوّل من حيث مراعاته لخصائص الطبيعة، والشرط الثالث تحقق النفعية؛ والنفعية هنا يجب أن تُغطي أكبر قدر من الجمعية وأن لا تحرض على العنصرية أو تُنتجها أو تحرض على إقصاء أو تنتجه.

وثمة ما يُعرف به الثابت الأحادي عن المتحول؛ فالمتحول لا يشكل قاعدة لتأسيس قانون، في حين أن الثابت هو قاعدة لتأسيس قانون كما أنه قاعدة لأبطال قانون. كما أن المتحول يخضع لمساءلة القانون في حين أن الثابت لا يخضع لمساءلة القانون لأنه مؤسِس له.

وهو ما يعني أن المتحول لا يحظى بتكافؤ فرص التعريف والفاعلية أسوة بالثابت الأحادي،إضافة إلى ما يصحبه من شبهة إفساد عقيدة المجتمع وسلمية توافقه، مما يُصعب التفاوض بينهما باعتبار أن النتيجة محسومة مسبقا لمصلحة الثابت الأحادي.

وغياب التفاوض بين الثابت والمتحول في ضوء عدم تكافؤ فرص فاعلية التعريف والقيمة للمتحول وهيمنة الثابت في زمن للعلمانية إيجابياتها أكثر من سلبياتها وغموض حدود الثابت ومستوى سلطته ثنائية من أهم أسباب الفتنة الثقافية في المجتمع الواحد.

- جدة