Saturday 03/05/2014 Issue 436 السبت 4 ,رجب 1435 العدد
03/05/2014

التاريخ الصامت

هناك دراسات واستعراضات تاريخية مكتوبة أو شفوية كثيرة ومتعددة المشارب والأهداف؛ لكن قليلاً منها له صفة التغلغل النوعي في مسيرة الأحداث، وعلاقات الناس بما حولهم، وشعورهم بالارتباط الفعلي بما يُحكى أو يُكتب. فالمنظور المتميز في الدراسات الجادة والمبدعة لا بد أن يكون منطلقاً من نظرة الناس إلى الأشياء، بطرح أسئلة جديدة قد تكون مخالفة تماماً للمسلمات السائدة، ولما تعود المرء على اعتقاده.

وأجدى تلك الطرق المتغلغلة في مسيرة الأحداث الفعلية هي ما تقوم بتفكيك ارتباطات الأشياء بالعالم، ثم تجميع تلك العلاقات المتناثرة بعضها مع بعض، من أجل تكوين صورة حقيقية عن نظام المصالح الذي يبني علاقات وهمية أو متصورة عن السلوك والرغبات، بل وأحداث الواقع، كما يعكسها ذلك النظام.

فالتاريخ المكتوب والمعتمد على سلاسل توالي الحكام واختلاف الدول لا ينبئ عن أي من تلك القضايا، ولا يدوّن إلا التاريخ الرسمي للجماعات البشرية والكيانات التي يعيشون فيها، المراد أن يكون عليه بغض النظر عن واقعيته، أو موافقة أولوياته لطبيعة الحال في الزمن الفعلي الذي تتناوله الكتابات التاريخية. ونتيجة للملل من استعراض تاريخ الأقوياء، الذي يعرض وجهات نظرهم، ورؤيتهم للأحداث، وتصنيفاتهم للأمور المستقبلية، إضافة إلى وضع القيم التي يوصف بها الأفراد أو الجماعات أو الأشياء سلباً أو إيجاباً؛ فقد لجأ بعض المؤرخين والمحللين الاجتماعيين والأنثروبولوجيين إلى العناصر التي تمس حياة الناس مباشرة، وحيثيات القيم التي يؤمن بها الأفراد مباشرة، وكذلك نبض ممارساتهم اليومية دون مداراة أو استعراض أو تشويه.

فقد اتجه بعضهم إلى تاريخ الأفراد العاديين الذين لم يتركوا أثراً، وانتقلوا من سير العظماء إلى سير الأشخاص الذين ليسوا من المشاهير، بل وأحياناً يكونون من المغمورين تماماً. فأصبحت الأولوية تعطى للبحث في الهوامش، وفي الموضوعات المسكوت عنها؛ إما من خلال التنقيب في الأرشيفات والوثائق المختلفة، أو بواسطة مراقبة سلوك الناس وانطباعاتهم وردود أفعالهم العفوية على ما يقابلهم من أفعال، وما يسمعونه من أقوال، إن كان الأمر يتعلق بتاريخ معاصر.

قليلة هي الكتب أو الأعمال القائمة على هذا المنهج في تاريخ البشرية، وليس في العصر الحديث فحسب، لأن الاتجاه الآخر هو المطلوب والمسوق له جيداً، والذي يتمتع بالمردود المادي والمعنوي الكبير. ففيما يقول آلان كوربان أن مهمة الكتابة من هذا المنطلق هي استعادة جزء من العالم المفقود للشخصية أو الحدث المراد تناوله، وهي التي لا يملك الناس عنها إلا معلومات قليلة، أو لا يملكون شيئاً على الإطلاق. ففيما يخص الناس العاديين، وخلافاً للشخصيات يصطدم المؤرخ بصمت النصوص، إذ لا توجد أي كتابات لها علاقات بالذات، فهم أشخاص غير مرئيين، ولا تُعطى لهم أي قيمة ولا أي رمزية إلا إذا ارتكبوا جرائم خارقة، أو نالوا عقوبات قاسية. فقط في مثل هذه الحالات يسلط عليهم الضوء، وقد يصبحون شخصيات ضمن أعمال قصصية أو درامية.

لكن بعض البارعين من المؤرخين أو الكتاب الاستثنائيين قد التفتوا إلى مثل هذا النموذج من التأريخ، وربما يكون أشهرهم من المؤلفين العرب أبو الفرج الأصفهاني في كتابه المتميز المسمى «الأغاني». وربما نجد الاهتمام قد زاد في العصر العباسي (وها هو التاريخ يوقعنا في الفخ، فيسمي الفترة بكاملها باسم العباسيين الذين حكموا خلال تلك الفترة بغداد وما يتبعها)، من مثل مؤلفات الجاحظ. وفي مصر خلال القرن التاسع عشر وجد من يكتب عن أحداث الشارع اليومي في القاهرة، وأحوال الناس العادية. أما في العصر الحديث، فقد أصبحت مطلباً لعدد من العلوم النظرية والتطبيقية.

- الرياض