Saturday 04/01/2014 Issue 424 السبت 3 ,ربيع الاول 1435 العدد

عشرُ نصائح لاصطياد رجل أحمق

منذ بنيامين كونستان لا أحد عثر من جديد على - نبرة - الخيبة

إميل سيوران

(1)

نادرةٌ هي الأعمال الأدبية التي تأتِي على ذكر الرجل (الأعزب). ذلك الرجل الذي لأسباب كثيرة، خاصة وعامة، يبقى وحيداً، بلا أي غصنٍ يتعكزُ عليه في حياته. بلا ذريّة تكون متنفسه الاجتماعي والنفسي في أقصى لحظات الأنانية الإنسانية المفترضة. بلا أي حب كبير، ينتشله من غربته ووحدته إلى فضاء آخر، فضاء المشاركة الدائمة في كافة شئون الحياة، لا يجد أحداً ليدندن له أغنية فلوران بانيي Vieillir avec toi (سأكبُرُ معكِ). يجد نفسهُ كأغصان شجرة تواجه عراء العالم وقسوته، حقارته ودونيته، الحياة بلا شيء، لا كرسي ولا منضدة ولا مرتبة ولا سرير ترتبه أيدٍ محبة وعطوفة. محنة الرجل الأعزب في مصيره الأسود في موته البطيء كشجرة صبَّ أحدهم على كعبها بضعة أكواب من البنزين. تصفّر، تئن وحيدة، تتساقط أوراقها ورقة ورقة بعد أن ينتشر المرض في كامل شرايينها، ثم وحيدة تموت، واقفة نعم، لكنها ميتة حيث الحياة تغادرها بلا أمل العودة. بلا حلم جديد برؤية الفصول التي ما أن تغيب حتى تضمحل وتتقلص الذات بلا رجعة.

ألمْ يكن هذا مصيرُ فلورينتو أريثا؟

ربما، لا ينطبق ما قيل على هذا الرجل. بطل - الحب في أزمنة الكوليرا - لم تداهمه الوحدة، لقد اختارها بمحض إرادته كعاشق كبير أراد ألا تدخل امرأة أخرى إلى قلبه. كثيرات دخلن إلى سريره لكن قلبه أقفل على واحدة. الرجل يمكنه أن يتعدد، يتشظى إلى رجال كثر، إلى مجموعات من العشاق، إلى مجموعة من المنبوذين في شخص واحد. غابت عن فلورينتو أرثيا حبيبته فرمينا داثا، ابنة الرجل الثري، لكنه وضعها في قلبه وأغلق عليها كل منافذ النور، ليخفي عنها القذارات التي ارتكبها على مدار أزمنة. نعم، أحبها ومضى في الزمن وحيداً كرجل أحب بإخلاص نادر، لكنه تحول إلى كتلة من القذارة والوصولية. صحيحٌ أنه ثابرَ على تنمية أعماله من موظف في البريد مكان والده المتوفى، إلى استغلاله مخيلته الخبيرة في العشق وخطه الجميل في كتابة الرسائل للعشاق والرسائل الرسمية ونعوات الموتى وخطب الجنازات والاحتفالات إلى النهاية، إلى حين عودة حبيبته واللقاء بها.

غير أنه مارس قذارات كثيرة، بمهارة، بتخطيط عقلي ممتاز، بتفانٍ نادر على ارتكاب المعاصي والتصميم عليها. الرجل الأعزب مريضٌ، لا يمكنه أن يمارس حياته كأي رجل آخر. بل يمارسها كوغدٍ حقيقي ونزق كبير. قادتنا رواية ماركيز مع بطله فلورينتو أرثيا، قادتنا إلى تلمس طرق الفاجعة، الطرق التي تتمخض عنها الخيبات الكثيرة والانكسارات وتحطم الذات الأنانية التي تفعل بتحطمها ما لا يمكن لأحد فعله. غير أننا، كما سلف، أمام نماذج بسيطة في الأدب، إذ نادراً ما جعل الأدباء من شخوصهم بلا آخر، حتى لو كان الآخر هو الجحيم كما قال سارتر. لا نعلم عن أي جحيم يتحدث سارتر، لقد كان رجلاً متوازناً وعاشقاً عقلانياً. لكنه قبل أن يذهب إلى الجحيم، اعترف أن جحيمه كان الآخر.

ماذا كان علينا أن نفعل لكي نؤنسن فلورينتو أريثا؟ عاش في قلب فقاعة حب كبير، لكنه عاش بقلب ميت، مغلق، متصلب، أناني. وهو حين وصل إلى غاية قلبه الكبرى، طلب من ربان السفينة أن يعلن موت ركاب السفينة الرمزي. أن يرفع علم الكوليرا الأصفر ويمشي رفقة حبيبته وحيدان في منعطفات الأمازون العظيم.

لم يتركنا ماركيز أمام نموذج واحد وفريد فقط. في مئة عام من العزلة، ثمة حب أيضاً. حب يفضي إلى العزلة والوحدة لكنه لا ينتصر بل حب يحقدُ. يتحول إلى كتلة من الكره والضغينة في أرقى أشكالها فحشاً. أمارنتا التي أحبت بيترو كرسبيانو بجنون. الشاب الرقيق المرهف الذي جاء من إيطاليا إلى ماكوندو لينشر الحب والموسيقى والرقص. غير أن القضية بالنسبة لأمارنتا لم تكن فقط هذا الشاب الوديع بل الحب نفسه والمشاركة، محاولة العثور على رجل لتكبر معه، لتمضي الأيام التي تتوالى في خضم الحب والرغبة وترك نسل لها هي، نسلٌ يتناثر في أزقة ماكوندو، القرية الوادعة التي أخرجها ماركيز من قلب كولومبيا إلى العالم كما تخرج الشعر من العجين. مع أمارنتا وبيترو وأختها وعشيقته وأخيها وبقية أبطال الرواية الملحمية عرفنا كولومبيا لكنا للآن نحفظ اسم ماكوندو أكثر من العاصمة ونعرف أمارنتا أكثر من كل العزباوات الكولومبيات ونعرف أن شاباً شهماً ومميزاً من ذلك الزمان، عاش من أجل الحب وعشق الموسيقى.

(2)

آنا بافلوفا لم تكن امرأة عادية. لقد عاشت حياتها بين صفحات رواية تولستوي (الحرب والسلام). لكنها عاشتها وحيدة بلا رجل، عزباء تتقاذفها أمواج من الرغبة بالبحث عن آخر يؤنس وحدتها فيما ترى الحياة تسير أمامها عادية ورتيبة. لربما شاء تولستوي ألا يضيف إلى شخصية آنا بافلوفا والتي يعني اسمها نوعاً من الحلوى بالفواكه. لربما أراد أن يجعل من عزباء روايته نموذجاً عادياً هامشياً لا يثير الزوابع من حوله ولا حتى يترك نتفاً من معاركه أو أحقاده. أرادها عاديةً وهي كذلك، لكنها امرأة عادية في رواية عظيمة.

لم يكن ذكرُ العزباوات في الأدب نادراً. لقد عالج الأدب هذه الشخصيات التي غالباً ما تكون واقعية، عالجها بحسب مفاهيمها بالنسبة لكل ثقافة. فالعزباء التي نجدها لدى ماركيز أو يوسا أو أليندي مفعمة بالحب والرغبة والحقد والكره والضغينة، هي المرأة التي تنتمي إلى تلك المجتمعات الغارقة بالواقعية الجاذبة. شخصية العزباء، سواء التي أحبت أم التي لم تحب، التي عاشت قصة عشقها بشغف لا مثيل له ثم تهدم كل شيء. أو التي لم تحب ولم يعشقها أحد، لم يلتفت لها رجل واحد حتى لو كان الرجل الأحمق، وهي لم تسمع للنصائح الكثيرة التي عادة ما توجه للعزباوات في مثل هذه الحالة.

والحق أن العزباء المفعمة بالحياة في الأدب اللاتيني، ليست كذلك في الأدب الإنكليزي. بعيداً عن شخصية العمة العزباء في توم سوير التي لم تتزوج ووجدت في أبناء أخيها تسليتها واختبارها الحقيقي في القدرة على التربية الصارمة لكن الكاريكاتورية. بعيداً عن هذا، العزباء في الأدب الإنجليزي غالباً ما تركت للأعمال المنزلية. المرأة الصامتة والخبيثة التي فاتها قطار الارتباط فتحولت شهيتها نحو الأكل الشره لتصبح مجرد امرأة سمينة أو مدبرة منزل تخينة لكن نشيطة، تعمل بهدوء، تزيل الغبار تعسف الأسقف والزوايا في الغرف تلاحق العناكب الصغيرة تحت الأثاث ولا تنجو الفئران من شرورها. لكنها لا تظهر حقدها إلا نادراً كما حدث رواية Joseph Andrews 1772 لهنري فيلدنج التي تعتبر من أوائل الروايات الواقعية. امرأة عزباء تسعى لتفريغ كل طاقتها في تعلم اللغة لكن لفظها للكلمات يحول الأمر إلى موجة من الضحك ثم ما تلبث أن تكتشف أن لا بديل عن تفريغ مكنوناتها وحقدها على العالم بشكل أنسب إذ إن الفضيلة والصمت والتعقل لا يؤديان إلى أي شيء.

(3)

لم يتطرق الأدب العربي كثيراً للمرأة العانس على غرار الأدب الياباني. كواباتا الذي وصلنا مترجماً إلى العربية والفرنسية والإنكليزية تطرق على خجل واستيحاء لشخصية العزباء في المجتمع الياباني التقليدي الصارم والقائم على قيم ثقافية محافظة جداً. قالت لي الفتاة اليابانية التي تعرفت عليها صدفة في Botanic garden Sydney أثناء محاولتي التقاط عدة صور لمبنى الأوبرا الشهير وقت غروب الشمس، قالت: إن النساء في بلادها يغلفهن الخجل ولهذا حين تعنس إحداهن لا يعد هذا ظاهرة اجتماعية مميزة ذلك أن المرأة هناك، في اليابان، لا تعبر عن مكوناتها بشكل ظاهر، بل تترك للتفاعلات أن تحدث في الداخل كما لو أننا نتحدث عن هذا المحيط بمياهه الرائقة دون أن نرى التفاعلات والتيارات والعواصف التي تحدث داخله. لهذا ربما لم نجد العزباوات كثيراً في الأدب.

في الأدب العربي قليلة هي النماذج. لكنها كثيرة في الواقع والحياة العامة. نجدُ معلمات مدرسة ناظرات أو مديرات عزباوات مديرات بنوك أو مديرات في مؤسسات كثيرة يفرغن أحقادهن على الآخرين. مثلما نجدُ عزباوات لم يحالفهن الحظ بتبوؤ مناصب خارج وجودهن في البيت والأسرة. في بعض المجتمعات العربية التي تحبذ الزواج المبكر، تعتبر المرأة العزباء التي فاتها القطار وصمة عار على جدران المنزل. وصمة عار على المجتمع نفسه، لا ينظر لها إلا بشيء من الريبة ودائماً ما تنتظر ردات فعلها التي في أحيان كثيرة تكون عنيفة وحادة. لا يمكن أن نطلب من امرأة لم تحظ بحب كبير أن تكون امرأة عادية وكفى، هذا غير ممكن. وهؤلاء إن لم يذكرهن الأدب كثيراً إلا أن السينما تلمح تلميحات، أحياناً كاريكاتورية، لوجودهن. الرحبانة تناولوا هذه المسألة كثيراً في مسرحياتهم ليس أكثرها تأثيراً شخصية لولو (فيروز) في المسرحية التي تحمل اسمها. الصبية التي أحبت ثم ظلمت حين اتهمت بقتل أحدهم ثم خرجت من السجن بريئة بعد خمسة عشر عاماً ولم تجد سوى ماسح الأحذية جرجي (نصري شمس الدين) الذي قالت له إن حبيبها أخبرها أنه سيبقى يحبها حتى تخلص الدنيا. فما كان من جرجي إلا القول - ما إنتي لما فتي على السجن خلصت الدني - وانتهت المسرحية بفقدانها حباً كبيراً وعظيماً مع تفريغ غلها وحقدها في التفرغ لاختيار شخصية تقتلها لأنها كما قالت دفعت للدولة ثمن قضية لم ترتكبها وتريد أن ترتكبها.

لكن ماذا نفعل، كيف نتصرف حيال امرأة لم تعد تنظر للحياة كما الجميع؟ لم تحظ بفرصتها من الغرام والعشق؟ لم تنجب أطفالاً لكي تحبهم وتضربهم وتصرخ في وجوههم وتحملهم مسؤولية ذبولها وتغير حياتها والاشتياق إلى مرحلة ما قبل الزواج؟ لم تندم لأنها تزوجت؟ هذا وحده يكفي، امرأة محرومة من الندم على شيء لم تفعله. أليس هذا تعذيب؟ الحرمان من نعمة الندم أو حتى نعمة النسيان أن شيئا حصل لها. معظم العزباوات اللواتي عرفتهن كنَّ نساء ممتلئات بالسواد، السواد الذي يجعل منهن قنابل موقوتة لا تدري ولا تعلم متى تنفجر. ولأني درست في مدارس الراهبات، عرفت أن العنوسة حتى لو كانت بقرار ذاتي وبناء على معتقدات إيمانية فإنها مسألة مؤرقة وصعبة. ذلك أن الإنسان لا يعيش دون آخر حتى لو كان هو الجحيم.

هل من كتب كما الكتب الممتلئة بالنصائح عن السمنة عن هذا الموضوع؟ كيف تصطادين رجلاً مثلاً، ما هي الطريقة؟ ماذا تفعل المرأة لكي تصطاد رجلاً؟ كيف تلفت انتباهه إلى أنها موجودة؟ كيف تجعله يفهم عليها وهو طبعاً أمر مستحيل؟ فلا يفهم المرأة إلا امرأة مثلها. الرجال ليس لديهم الوقت ليفهموا المرأة، لديهم ما يشغلهم، قضايا كبيرة تحتل المساحة الكبرى من يومياتهم، نشرات الأخبار، المذيعات الجميلات، قراءة أطنان من الكتب من أجل البحث عن فكرة واحدة، التسكع في المقاهي لرؤية الحياة كاملة وهي تسير على الرصيف، لعب الورق مع الأصدقاء، طاولة الزهر في مقهى شرقي قديم، رحلات الصيد كما ملوك فرنسا في حيوات سابقة، كل هذا.

(4)

في قصاصة وجدتها قبل سنوات موضوعة على المقاعد المجاور لمقعدي في الباص رقم (66) في باريس، كتبت امرأة فرنسية لا أعرفها لصاحبتها الحوار التالي:

- هل رأيتِ الرجل نفسه اليوم؟

- أيُ رجل؟ الأحمقُ الذي يثير فينا الضحك كلما مررنا؟

- كلا

- من إذن؟

- الرجل الجميل الذي يسند ظهره على السور المقابل لمدخل البلدية كل يوم ثلاثاء.

- كلا لم أره.

- إن رأيتيه الثلاثاء القادم في مكانه المعتاد، أخبريني، عليَّ أن أسدد له لكمة قوية تهز كيانه ثم سأرميه في النهر.

- لماذا كل هذا الغِل؟ ماذا فعل؟

- لقد أحببته.

سيمون نصّار - باريس