Saturday 05/04/2014 Issue 433 السبت 5 ,جمادى الثانية 1435 العدد
05/04/2014

دان براون.. المدهش حقاً!

مَنْ يقرأ روايات دان براون لن يقتنع بالقليل من المتعة، والانجذاب إلى فكر رجل يتعمّق في ماهية الأشياء، التي يكتب عنها، إلى الدرجة التي تجعله يوظف عناصرها توظيفاً رمزياً مدهشاً حقاً.. ولا يتوقف إبداعه على الموضوعات التاريخية، التي برع في تصويرها، وكأنها واقع قائم أمام القارئ؛ بل تطرق في روايته الأخيرة (inferno) إلى أفكار جديدة تهم العالم الحديث، وإن كانت في عناصر التقوية تعتمد على معطيات رمزية قديمة تعود إلى دانتي وتصوراته الدرامية عن الجحيم، ومنها أتى عنوان الرواية.

وقد تناول في روايته الأخيرة قضية الانفجار السكاني على الأرض، وأن البشر أصبحوا محكومين بما تمليه عليهم منظومات قيم جزئية.. فصاروا يتبنون الفهم الفردي لمصالح الناس بوصفه أيضاً المناسب لمنظومة المجتمعات البشرية، والحياة الكلية على الأرض.

أصبحت العناية الطبية لكثير من البشر، ومقاومة الفيروسات القاتلة، والأوبئة المهلكة لكثير من الجماعات البشرية؛ هي المعيار لتقدم حضارة الجنس البشري.. لكنه يأتي بأمثلة من الواقع تثبت أن الحضارات البشرية لم تنشأ إلا بسبب الكوارث؛ ويمثل لذلك بما يسميه الأوربيون «الطاعون الأسود» (Black Death) قائلاً بأنه السبب المباشر للحضارة الأوربية المعاصرة، لأنه خفف من الكثافة السكانية في القارة الأوربية، وجعل التنافس على الموارد أقل، وتكاتف الناس في البناء أكبر، مما مكّنهم من بناء نهضتهم في الفترة التي تلت تلك الكارثة.. ثم إن الحروب العالمية، التي خلفت ملايين القتلى غيرت آليات الإنتاج، ليبدأ الجنس البشري طفرة جديدة من الحياة القائمة على معطيات جديدة، ومبادئ ثقافية واجتماعية وسياسية مختلفة عما هي عليه في السابق.. فهل يريد القول بأن نابليون وهتلر وموسوليني وبقية القائمة كانت تعمل لخير البشرية؟

يبدو أن الإنسان بقدر ما يحقق من تقدم في بعض المجالات العلمية، يتقهقر في مجالات أخرى، لتكون المستويات التي يتراجع فيها مساوية لما حققه من إنجازات؛ فالعالم الذي يرينا إياه العلماء اليوم يضارع في غموضه وإبهامه العالم الذي كانت تصوره لنا الأساطير.. ونظن بأن الحكمة تقضي بنوع من الرؤية التي كان يقول بها حكماء البوذية: «ما هو مطلوب فهمه، هو أنه ليس هناك شيء مطلوب فهمه».. غير أن الحضارة الغربية، حيث نشأ الفكر العلمي (بالمعنى السائد اليوم في العصر الحديث)، وتطور في مراحل متقدمة، غير قادرة على الخروج من المسار القدري المحتوم.. فالتناقض مفروض بقدر مراحل التطور، وقضية التوازن بين التقدم والتراجع تتحقق في كل حالة من القفزات العلمية الكبيرة.. فالإنسان متعدد الأبعاد بطبيعته (بيولوجي وأنثروبولوجي وسوسيولوجي وسياسي..)؛ وتعدد هذه الأبعاد يستوجب ترابط المعارف على صُعدها المختلفة، على نحو ما يرى إدغار موران: «إن دراسة الإنسان على مستوى واحد من مستويات معرفته تشوهه، لأنها تقطعه وتجزئه وتمنع فهمه حق الفهم.. فإذا درست الإنسان والمجتمع من زاوية سوسيولوجية فحسب، تكون قد منعت نفسك من فهمه حق الفهم؛ ولذا، فإن الفكر التجزيئي الذي تنتجه الجامعات والمعاهد العليا عاجز عن وضع المشكلات في سياقها الصحيح.

تذكرت ما قاله أستاذنا حسن ظاظا نقلاً عن أحد المفكرين الفرنسيين الكبار، بأن الصحف أصبحت مملة في الوقت الحاضر؛ فلا تقرأ فيها إلا أخباراً رتيبة.. لو كنت تفتح صحيفة، فتجد مانشيتاً عريضاً: اليوم مات ملياران من البشر..؛ فإنها ستكون أكثر إثارة وتشويقاً.. علّقنا عليه وقتها: ومن سيصدر تلك الصحيفة، أو يكتب ذلك الخبر؟ هل الكارثة التي تكون بهذا الحجم يمكن أن تترك حياة طبيعية تصدر فيها صحف، ويقرأ الناس تلك الأخبار بشغف أو فضول؟

- الرياض