Saturday 05/04/2014 Issue 433 السبت 5 ,جمادى الثانية 1435 العدد
05/04/2014

تكريم عبد الرحمن مجيد الربيعي

في تونس يجلس في مقهى «روتونده» عبد الرحمن مجيد الربيعي، كاتب الرواية والقصة والمقالة الذي زود المكتبة العربية بأجمل القصص والروايات.

عرفته قبل أن أراه في مطلع الستينيات حين كان يكتب من مدينة الناصرية وكنت حينها مشرفا على الصفحة الثقافية لجريدة المواطن فكانت تأتي مقالاته لي وأنشرها.

ثم التقيته بعد أن دخل العاصمة بغداد شاهرا «السيف» على متن «السفينة» في مجموعته القصصية «السيف والسفينة» التي أثارت زوبعة من الإعجاب. وعرفته أكثر من أيام العبث والتشرد والجايخانات «المقاهي» البغدادية ثم افترقنا بعد أن صار الذي صار، واضطررت لمغادرة الوطن عام 1969.

لم ألتقه بعد ذلك سوى في تونس عام 2008 عندما جئت إليها، تضم في حناياه الربيعي عاشقا أهلها مرحبين به ومرحبا بهم. جئت كي أعمل مونتاج فيلم عن مدينة غدامس التاريخية في ليبيا، وعادت همومنا من جديد على صيغة أحاديث عن الماضي في الوطن والحاضر في الوطن والغائب «المستقبل» في الوطن!

مثل شخصية في رواية من رواياته أو شخصية في رواية ما يخرج من منزله في أول الصباح حاملا حقيبته الجلدية يمشي الهوينا ثم يصعد الباص الأخضر ويصل إلى شارع بو ركيبه ويمشي متوجها نحو مقهى «روتونده» وهي مقهى غريبة يؤمها المثقفون وغير المثقفين والمشردون وغير المشردين، يأكلون الحمص المسلوق وعليه رذاذ من الكمون والملح ويرشفون الشاي الأخضر ويتحدثون بأحاديث لا رابط بينها مجرد كلمات كلمات كلمات التي قالها هاملت حتى ينقضي نصف النهار فيجوع عبد الرحمن ويتوجه نحو مطعم «الكابيتول» يقدم فاكهة البحر يملأ بها معدته حتى لا تناديه فيأكل من فواكه البحر، ثم يشعر بالنعاس لكنه يرفض العودة إلى المنزل خوفا من أن ينام مبكرا ويصحو قبل موعده فيختل في وجدانه ميزان الحياة اليومية.

أشعر أنه يشعر بالسعادة عندما ينعقد مؤتمر للأدب وغاليا ما يكون محكما فيه فيصبح اليوم عنده جديدا وينسى الروتين القاتل الذي يتكرر معه كل يوم، فيحس بأنه صار جديداً.

كان عبد الرحمن مجيد الربيعي يعاني من الحصول على التأشيرة على جواز سفره العراقي. ويشعر بالحزن وهو يمشي الهوينا وصولا إلى استعلامات السفارات.

اتصل معي هاتفيا في أول ذات صباح وكنت وصلت هولندا آتيا من العراق، فقال مثل طفل صغير حصل على دمية غريبة غير متوقع الحصول عليها حيث تغير ذلك الدفتر الصغير المغلف والمكتوب على غلافه «جواز سفر» تبدل لونه وتبدل العنوان الذي أصبح «جواز سفر الجمهورية التونسية»

الآن صرت تونسيا بالوثيقة يا عبد الرحمن.

لا شيء سوى أن الدفتر هو دفتر آخر لكن «الجيب» بقي ذات الجيب!

والوطن أي جيب يحتويه!؟

أكاد أضحك أنا حين أشعر بأن الوطن يمكن أن يدخل في جيب سترتي.

الوطن بنخيله وشواطئه وناسه الطيبين والأنذال والمصارف وبواباتها الحديدية ووزارات الدفاع ومديريات الأمن والمفخخات وتوابعها، والوطن كل هذا الوطن بقبوره وبصالات السينما المهدمة فيه ومسارحه الممزق الستائر، يتلخص في دفتر صغير ومغلف وقد كتب على غلافه «جواز سفر» عراقي. أصبح في جيب عبد الرحمن الربيعي وطن تونسي بدلا من وطن عراقي متمثلا في دفتر ولكنه ذات الجيب! حيث سيبقى عبد الرحمن مجيد الربيعي يمشي الهوينا بين منزله وحتى شارع بو ركيبه وبين الشارع ومقهى روتونده وبين المقهى ومطعم الكابيتول، يأكل من فاكهة البحر، دون أن يتغير شيء.

الفكرة التي قد تريح عبد الرحمن مجيد الربيعي والتي ارتحت بسببها أنا أكثر، أن الوطن الذي في جيبه بات اكثر احتراما من قبل مطارات العالم، والوطن الهولندي الذي في جيبي أنا أكثر وأكثر احتراما من قبل مطارات العالم. أنا مثلا عندما أدخل أغلب بلدان العالم غير مطالب بالحصول على تأشيرة سفر وغير مطالب بمراجعة مديريات الأمن والإقامة. أدخل البلدان وأخرج منها حتى أكثر من مواطنيها. كان عبد الرحمن مجيد الربيعي قد زار وطنه الأول العراق قبل شهرين من كتابة هذا المقال، وقال لقد احتفوا بي. أنا كنت هناك حين زار الربيعي الوطن ولم أسمع بالاحتفاء، كان عبد الرحمن الربيعي يقصد بالاحتفاء، أنه دعي لتناول السمك المسقوف على ضفة نهر دجلة وعن لقاء في قناة فضائية وعن أهلا وسهلا في أروقة وزارة الثقافة.

عبد الرحمن مجيد الربيعي كان ينبغي أن يفرشوا له السجادة الحمراء وينتظره رئيس البلاد بفارغ الصبر ويتمنى رئيس الوزراء أن يلتقط معه صورة تذكارية وأن يقلد وسام الوطن من الدرجة الأولى.

عبد الرحمن مجيد الربيعي يحمل في جيبه اليوم وطنا ثانيا وهو يمشي متعثراً بين البيت والمقهى وبين المقهى والبيت.

نيابة عن عبد الرحمن مجيد الربيعي

وأصالة عن نفسي،

شكرا لتونس الخضراء،

وشكرا لهولندا الجميلة.

- هولندا k.h.sununu@gmail.com