Saturday 06/12/2014 Issue 454 السبت 14 ,صفر 1436 العدد

ملامحُ القلقِ العروضي

في قصيدة (موقف الرّمال.. موقف الجِناس) لمحمد الثبيتي -رحمه الله-

(1)

قبل البدءِ أحبُّ أن أشير إلى أن هذه القصيدة - التي تحملُ عنوان (موقف الرِّمال.. موقف الجِناس) - يأتي ترتيبها بحسبِ ديوان الثبيتي الصادر من (نادي حائل الأدبي 2009م) في المرتبة الثانية، وهي تعدُّ أطولَ قصائده وأجملها برغم الانتهاكات العروضية التي تخلَّلت الجزءَ الأوَّلَ منها.

تتكوَّن قصيدة الثبيتي هذه من جزءَيْن اثنَيْن: الجزء الأوَّل منهما ينتمي إلى البحر (المتدارك)، كما تنتمي بعضُ أجزاءِ مقاطعه إلى البحر (الكامل) وبحر (الرجز) والبحر (الوافر). أما الجزء الثاني فينتمي برمته إلى البحر (الكامل).

(2)

في الجزء الأول من هذه القصيدة توجد بعض الإشكالات الفنية التي قد يصفها البعض بأنها من الخروق الموسيقية المخلة بالوزن، ومن ذلك قوله من (المتدارك):

أنتَ والنخلُ صنوانِ

فاعلن فاعلن فاعـِ

هذا الذي تدَّعيه النياشينُ

ـلُن فاعلن فاعلن فاعلن فاعـِ

ذاك الذي تشتهيه البساتينُ

ـلُن فاعلن فاعلن فاعلن فاعِـ

هذا الذي

ـلُن فاعلن

دَخَلَتْ إلى أفلاكه العذراءُ

متَفاعلن متْفاعلن فعْلاتن

ذاكَ الذي خَلَدَتْ إلى أكفاله العذراءُ

متْفاعلن متَفاعلن متْفاعلن فعْلاتن

هذا الذي في الخريف احتمالٌ

متْفاعلن فاعلن فاعلن فا

وذاك الذي في الربيع اكتمالْ

عِلن فاعلن فاعلن فإعلان

فالخلل في هذا المقطع نشَأ أساساً من قوله: (دَخَلَتْ إلى أفلاكه العذراءُ.. ذاك الذي خَلَدَتْ إلى أفلاكه العذراءُ.. هذا الذي) فهذا الجزء ينتمي إلى البحر (الكامل) الذي تُعد (متفاعلن) لبنته الأساسية. ولقد كان الواجب على الشاعر أن يستمرّ في البحر (المتدارك) حتى نهاية المقطع.. ثم يكون له الخيار - بعد ذلك - في أن ينتقل إلى أي البحور شاء.. لكنه فضَّل هنا الخروج عن النّمط الموسيقي المبني على نظام الخليل إلى نمطِ المزج بين البحور؛ حيث اختار الشاعر الخروج بتوليفة موسيقية حرَّة تجمع بين البحر (المتدارك) والبحر (الكامل). وأظنُّ أن هذا الخروج الفاضح يعود إلى حِدَّة الحزن التي انتابته عندما أراد أن يصوِّر علاقة مريم بالإنسان والنخلة؛ ذلك أنها - عليها السلام - كانت حين آن موعد الولادة في حالة من الكرب - لا يعلمها إلا الله - فكانت النخلة خير مأوى، كما كان زكريا - عليه السلام - خير كافل.

ثم إنّ الثبيتي - والحق يقال - كان يدرك جيداً وقوعه في هذا الخلل التقني الذي وشَمَ به قصيدته؛ لهذا سوف نراه - لاحقاً - يستدرك ذلكم الخطأ في التفاتة عبقرية؛ إذ يقول في ذات القصيدة:

«يا طاعناً في النايْ

متْفاعلن فعْلان

إسلمْ

متْفا

إذا عثرتْ خُطاكْ

عِلن متَفاعلان

واسلمْ إذا عثرتْ عيون الكاتبين على خَطاكَ وما خَطاكْ».

متْفاعلن متَفاعلن متْفاعلن متَفاعلن متَفاعلان

يلفت الشاعر في هذا النص أنظار النَّقاد، بل يعترف أمامهم بطريقة إيحائية باهرة بأن ثمة أخطاء موسيقية تتعلق بالإيقاع الخارجي قد وقعت، وأن هناك اضطرابات فنية قد تمَّت وحصلت.. فهو - بكل تأكيد - قد اعترف بذلك اعترافاً موشَّى بالأدب، ونطق بذلك نطقاً لا تردّد فيه ولا ندم.

(3)

ومن الانتهاكات العروضية التي وقع فيها الثبيتي في هذه القصيدة قوله من (الكامل):

تسري الدماء من العذوقِ إلى العروقْ

متْفاعلن متَفاعلن متَفاعلن

فتنتشي لغة البروقْ

مفاعلن متَفاعلان

أي بحرٍ تجيدْ

فاعلن فاعلان

أي حبرٍ تريدْ

فاعلن فاعلان

سيدي لم يعد سيدي

فاعلن فاعلن فاعلن

ويدي لم تعد بيدي

فاعلن فاعلن فاعلن

فأنت تلاحظ هنا أن الشاعر قد أخذ في بادئ الأمر بالتفعيلة (متفاعلن)، التي منها يتكون ضابط البحر (الكامل)، ثم أخذ ينحرف بعد ذلك إلى (فاعلن)، التي منها يتكون ضابط البحر (المتدارك). لكن الشاعر ينتبه إلى هذه الشطحة العروضية، بحكم ذكائه العاطفي المرهف وفطنته الإيقاعية الوقَّادة، فها نحن نراه يلجأ إلى هذا التساؤل الحزين الذي عَبَّرَ عنه بطريقة علنية وبلغة الحيارى قائلاً: «أي بحرٍ تجيد» إنه حقاً تساؤلٌ لا يجرؤ عليه إلا كبار الشعراء وعمالقتهم، ثم ها هو يقرر بعد ذلك هذه الحقيقة الصادمة: «يدي لم تعد بيدي».

(4)

ومن الانتهاكات العروضية قوله من (المتدارك):

قال:

فاعِـ

يا أيها النخلُ

ـلُن فاعلن فاعِـ

يغتابك الشجر الهزيلْ

ـلُن فاعلن متَفاعلان

ويذمك الوتد الذليلْ

متَفاعلن متفاعلان

وتظل تسمو في فضاء الله

متَفاعلن متْفاعلن متْفاعـِ

ذا طلعٍ خرافيٍّ

ـلُن متْفاعلن متْفا

وذا صبرٍ جميلْ

عِلن متْفاعلان

وهذه هي المرة الثالثة التي نرى فيها انتقال الشاعر من (المتدارك) إلى (الكامل)، وسنراه أيضاً في المقطع التالي يمارس نفس المنهج، وهي - بحق - تقنية ثبيتية تستوجب منا الانتباه، فنحن لا نشك بأن (سيد البيد) لجأ إلى هذه المزاوجة لأسباب انفعالية لا شعورية؛ لأننا سنجد أنه في أثناء استخدامه لـ(المتدارك) لم يكن بذاتِ الحزن الذي كان هو يعاني منه في البحر (الكامل)؛ ذلك أن الغرض المطروق في البحر (الكامل) - لو تأمَّلتَ - يختلف عن الغرض الذي تم طرقه حينما كان ينظم على (المتدارك)، وهذا يعني أن شِحنة الشَّجى لديه كانت في حالة غيرِ مستقرّة، فهي في صعود مرة، وفي هبوط مرة أخرى، فمثل هذه الحالة المفعمة بالتوتر وعدم الاستقرار لا تصلح عادة لـ(المتدارك).

إن البحر (المتدارك) كما يرى صاحب شرح تحفة الخليل: «بحر رتيب هادئ»، بل إنه كما يقول البدراني: «يمتاز بشدة إيقاعه وقربه من الأوزان الراقصة». ويقول البستاني: «هو لا يصلح إلا لنكتة، أو نغمة، أو ما أشبه وصف زحف جيش أو وقع مطر أو سلاح، وهو قليل في الشعر القديم والحديث». أما (الكامل) فهو كما وصفه المجذوب بأنه «أكثر بحور الشعر جلجلة وحركات، وفيه لون خاص من الموسيقى، يجعله إن أريد به الجد فخماً جليلاً مع عنصر ترنمي ظاهر». ويقول البستاني: «هو أجود في الخبر منه في الإنشاء، وأقرب إلى الشدة منه إلى الرِّقة». فمن خلال هذه الأقوال نستطيع أن نصل إلى السر الذي دفع الثبيتي إلى هذه المزاوجة المثيرة للجدل بين هذين البحرين، فالثبيتي في الجزء الأول من قصيدته كان يزاوج بين غرضين اثنين، أحدهما وصف الذكرى الجميلة والفخر بها وهي الأصل، وثانيهما وصف الذكرى الحزينة والرثاء لحالها، وهي الفرع، ففي الأول استخدم (المتدارك)، أما في الثاني فإنه كان يجنح إلى (الكامل). وبين هذا وذاك صراع عاطفي سنبينه في الفقرة التالية.

(5)

يقول الثبيتي من (المتدارك):

قال:

فاعـِ

يا أيها النخل

ـلُن فاعلن فاعِـ

هل ترثي زمانك

ـلُن متْفاعلن متَـ

أم مكانك

ـفاعلن متَـ

أم فؤاداً بعد ماء الرقيتين عصاكْ

ـفاعلن متْفاعلن متْفاعلن متَفاع

حيث نلحظ هنا - مرة أخرى - مزجاً معاداً ومكرراً بين بحرين اثنين، سبَقَ للشاعر المزج بينهما في مقاطع سابقة من هذه القصيدة، وقد أشرنا إلى ذلك في الفقرات (2) و(3) و(4)، وهذان البحران هما البحر (الكامل) والبحر (المتدارك)، ويخيل إلي أن نُشوء هذه المزاوجة ليس إلا دليلاً على الصراع العاطفي الذي كان يعاني منه الشاعر؛ إذ إن كثيراً من النقاد يؤكدون أن اختيار البحر يخضع للحالة النفسية التي تعترض الشاعر، وأعتقد أن الثبيتي كان في الجزء الأول يعاني فعلاً من صراع داخلي بين نقيضين غامضين، نتج منه هذا (القلق العروضي) الذي عصف بقصيدته عصفاً، وأزَّها أزَّاً، لكنه استطاع في النهاية أن ينجو، وذلك بعد أن أخذت به رياح العاصفة إلى إقليم البحر الكامل من دون أن يشعر، فالتزمه - بعد ذلك - في كافة مقاطع الجزء الثاني.

(6)

لا ريب - بالنسبة لي - في أن الشاعر الثبيتي استطاع بحكم الحسّ الموسيقي الذي متّعه الله به أن يصِل بقصيدته هذه إلى برِّ الأمان.. مؤكداً هو - بوصفه شاعراً حداثياً - أن أوزان الخليل ليست هي وحدها الشِّعر، مردِّداً هو كما ردد أبو العتاهية من قبل بأنه «فوق علم العروض»، أوليس هو من تساءل في قصيدته (هوامش حذرة على أوراق الخليل) قائلاً:

«أيرضى الشعر أن يبقى أسيراً

تعذِّبه محاصرة الخليل؟».

منصور بن عبد الله المشوح - بريدة