Saturday 07/06/2014 Issue 441 السبت 9 ,شعبان 1435 العدد
07/06/2014

التاريخية الجديدة

يعود مصطلح التاريخية الجديدة إلى غرينبلات الذي استخدمه في كتابه الصادر سنة 1980م، وإن كان هذا المفهوم ورد في كتاب من عمل مجموعة من النقاد بعنوان مأساة الولاية نشر سنة 1971م. وهو ما يعني أن هذا المصطلح ومثله المدرسة النقدية تعد من أحدث المدارس في القرن العشرين.

ظهرت مدرسة التاريخية الجديدة بوصفها ردة فعل على الاتجاه الواضح في المناهج النقدية الشكلانية التي تعتمد على الشكل نفسه دون الاهتمام بالسياق الاجتماعي والتاريخي، وبدا أن هذه المدارس تهمش النص الأدبي حين تعزله من سياقه الاجتماعي والتاريخي، وتجعله كائناً هوائياً لا وجود له يرتبط به، بالإضافة إلى شعور أصحابها بأن النقد قد وصل إلى طريق مسدود بهذه الدراسات النظرية المختلفة التي تعتمد على الشكل وتركز على النص مرة، وعلى القارئ أخرى، والمنتج ثالثة. ومن هنا رأى أصحابها الحاجة إلى البحث عن منهج نقدي يعيد النص الأدبي إلى سياقه الاجتماعي والتاريخي.

يمكن تعريف التاريخية الجديدة بأبسط صورة بأنها تحليل النص الأدبي وقراءته من خلال ربطه بالكتابات المختلفة التي تتصل بالموضوع نفسه سواء كان في زمنه أو الأزمنة اللاحقة له، وقد رأت التاريخية أن التاريخ ليس تسلسلاً زمنيا ولكنه بناء من الأفكار يشكل كل أحد أو كل شيء حوله من خلال الثقافة. ومن هنا رأت أن تقف على هذا البناء من خلال النص الأدبي، والنصوص الموازية له.

وقد توصلت إلى هذه الرؤية من خلال فرضية جديدة بنت عليها التاريخية الجديدة رؤيتها بالإضافة إلى بعض المفاهيم الأكاديمية والنقدية التي كانت سائدة في المجتمع الأكاديمي النقدي آنذاك. هذه المفهوم على حد تعبير غرينبلات: «تجهيز الفرضية» والذي تمثل بعدد من التصورات:

1- الأدب تاريخي بطبيعته، فهو ليس في الأساس انعكاساً لعقل فرد في محاولته لمعالجة مشكلة معينة، ولكنه تركيب اجتماعي وثقافي شكل عن أكثر من وعي، ومن هنا فهو يمثلهم. والطريقة المثلى لفهم هذا العمل من خلال الثقافة والمجتمع اللذين أنتجاه.

2- والأدب من هنا ليس معزولاً عن النشطات الإنسانية الأخرى، فهو متداخل مع التاريخ مما يعني أنه صورة محددة من التاريخ.

3- ومثل العمل الأدبي، الإنسان نفسه، الذي يصبح مكوناً اجتماعياً متأثراً بكل القوى الاجتماعية والفكرية التي تحيط به، وليس هناك إنسان طبيعي فوق التاريخ، فالإنسان في عصر النهضة هو ابن ذلك العصر الذي يحمل حسناته وسيئاته.

4- ومن هنا فالناقد التاريخي قد وقع في فخ «تاريخانيته» التي تعني راهنيته للأحداث التي عاشها، ولا يمكن لأحد أن يرتفع على تكوينه الاجتماعي، وأيديولجيته التي نشأ عليها حتى نفهم الماضي بشروطه. والقارئ المعاصر لا يمكن أن يجرب النص القديم مثل أصحاب الخبرة من معاصريه، ومن هنا فإن أحسن قراءة معاصرة للنص الأدبي هي التي تتمنى أن تتحق في استخدام النص بوصفه أساساً لإعادة بناء الإيديلوجيا الماضية. وهو ما جعل هذا النوع من الدراسة في مواجهة الدراسة التاريخية التقليدية التي ترى أن اكتشاف المعنى الأصلي للنص هو التحليل النقدي، الأمر الذي تراه التاريخية الجديدة سطحياً، وتعدل بناء عليه المقولة السابقة إلى أن هدف التحليل النقدي هو البحث عن أيديولوجيا النص.

وأما المفاهيم الأكاديمية السالف ذكرها التي مكنت التاريخية الجديدة من إكمال رؤيتها، وتحقيق نظريتها، فهي مفاهيم تنتمي إلى ما بعد البنيوية كمفهوم تعدد القراءة، الذي يعني تعدد المعنى بتعدد القراء، وهوما مكن التاريخية الجديدة من التخلص من ربط قراءة النص بنية المؤلف، وقصده الذي يلح عليه دارسو التاريخية التقليدية، بالإضافة إلى مفهوم التناص، والذي يقضي على أن النص معزول عن سياقة، وأنه بنية مغلقة يجعله متصلاً بالسياق من حوله، لكن التناص يحددد الارتباط بالجانب اللغوي والنصي في حين لا تحدده بذلك التاريخية الجديدة. كما يمكن أيضاً تلمس العلاقة بين التاريخية الجديدة والهرمونوطيق الألمانية عند قادمر، ومفهوم الإيديولوجيا عند الكاتب الفرنسي لويس ألتوسير.

والعمل الأدبي من وجهة نظر هذه المدرسة يقدم الثقافة من حيث ما ظهر فيها، وتقديم الثقافة هنا ليس عن طريق المحاكاة، بمعنى أنه يقدم صورة مشوهة عنها، أو يحاول أن يقلدها، ولكنه يتوسط الفعل الثقافي أجمع بوصفه جزءاً منها، باعتبار أن الثقافة تتكون من عدة معطيات يأتي العمل الأدبي واحداً منها، فالرواية تقدم عملاً فنياً لتجربة إنسانية محددة، وتضعها تحت الأضواء حتى يتأملها المؤرخون وعلماء الاجتماع، والنفس، فالعمل الأدبي في وسط الممارسات الاجتماعية، ومن هنا يمكن القول إن العمل الأدبي يشكل الخبرة البشرية، أكثر مما يعكسها كما ترى المدرسة الانعكاسية، ويمكن من فهم التجربة البشرية، والحدود التي يمكن أن يصل إليها الإنسان.

وعلاقة التاريخ بالعمل الأدبي في وجهة نظر هذه المدرسة ليست علاقة تبين سبب إنشائه، أو المصادر التي أخذها منه، ولكنها علاقة جدلية، فالعمل الأدبي يفسر على أنه منتج ومنتج في الوقت عينه، نهاية، ومصدر للتاريخ، فهو منتج لأن المجتمع أنتجه، وهو منتج لأنه أنتج القيم وأنتج أسلوب حياة الناس، وأنتج رؤية حيال ما يحدث. والتاريخ ليس حدثاً سابقاً، أو سيرورة أحداث يكمل اللاحق منها السابق من خلال كتب التاريخ، ولكنه مجموعة أفكار متماسكة تفرض نفسها في مرحلة من المراحل.

وقد طرح بعض النقاد سؤالاً على التاريخية الجديدة يتصل بعلاقة الإيديولوجيا التي يتحدث عنها بالحقبة الزمنية الماضية التي ينتمي إليها النص، وكيف نعلم أنها ليست سوى تعاطف من قبل الكاتب مع أولئك الذين يتصل النص بهم سواء كان موضوع النص فلاحين أم عمالاً أو سواهم من ضحايا المجتمع؟.. وبالرغم أن هذا السؤال المباشر لم يجد جواباً مباشراً من قبل نقاد التاريخية الجديدة، إلا أن بعض الدارسين وقفوا على تعليق غرينبلات على رسوم ديرور «الرسام اليدوي»: أن جعل النصب التذكاري لإحياء ذكرى الانتصار على متمردي الفلاحين صورة فلاح مطعون من الخلف هو نوع من السخرية بهذا الانتصاروتدمير له، لا يمكن أن نجده بقدر كبير في أدلة ثابتة في العمل الفني نفسه بقدر ما نجده في تعاطفنا مع الفلاحين وما أصابهم في ذلك الزمن. هذا التعاطف الذي نشأ من أيديولوجيا القرن العشرين كما يذكر المتخصصون المتأخرون بالتاريخ، ومن شعورنا بالأمن والطمأنينة. وهذا القول من وجهة نظره محدود القيمة لأنه بالنسبة لحالتهم في الستينيات كان اهتمامهم بالفلاحين الألمان قليل، ولذا جاء الانطباع من عنوان العمل وهو»تذكار» وليس قراءة العمل نفسه. ولكن كيف يمكن لناقد أن يكون متأكداً من أن العمل المدروس الذي أمامه لا يزوده بهذه المشاعر المكبوتة في داخله ويسهم في تجديد ظهورها، كما تجدد مشاعرك القديمة حيال ذكرى معينة قصيدة تدور حول الموضوع نفسه، أو تتصل بشيء قريب منه؟.. وبالنسبة له، فإن السؤال ليس هذا المهم ولكن السؤال العلمي كيف استطاع الفنان دورور أن يقدم عملاً مملوءاً بالتفاصيل والتصميم المترابط الذي يجعله قادراً على الانفتاح على التأويل بالرغم من إمكانية دلالته على قصد الكاتب؟.. ولكن هذا أيضاً ليس أمراً مشكلاً من وجهة نظر بعض الدارسين بناء على أن أي نص ولا يهم مقدار تفوقه يمكن أن يمنح نفسه لأي تأويل، وهو ما يجعل غرينبلات يضيف إلى أن هدف الدرس العلمي هو أن يربط قصد الكاتب مع مشاعر الناقد المتعاطفة مع موضوع النص، فهو يرى ببساطة أن عمل دورور مهيأ ليتداخل مع العاطفة التي قد يشعر بها أي معاصر حساس. وهذا التعاطف من وجهة نظره لا يقل أهمية عن تصميم النص، فليس هناك جهد معين يتخذ لمعرفة إذا كان التصميم مهيئاً لأي شيء، وإنما بوصفه معطيات للتأويل يجب أن يؤخذ بها، ويعرفه الناقد بناء على الطريقة التي يشعر بها.

- الرياض