Saturday 07/06/2014 Issue 441 السبت 9 ,شعبان 1435 العدد

المسألة الثقافية السعودية

الحداثة المزوّرة - 7

(1)

بترَتْ فترة (الحداثيّون والصحويّون) دلالة الحداثة - العلمانيّة المستندة على البحث العلمي وحريّته في إعلان نتائجه والعمل بها، دلالة التطوّر الطبيعيّ، دلالة التحرّر من سلطة رجال الدين، بل تبرّأت من تاريخيّة الدعوة إلى الحداثة - العلمانيّة عند رعيل الثقافة في مرحلة التأسيس التي أشرنا لها في الجزء السابق (وأد الحداثة - العلمانيّة - 6)، ومن مقولاتها ومدلولاتها في مكان نشأتها الغربيّة العلميّة، واعتمدت على دلالة مغلقة أدبيّة ضيّقة، جعلت الصراع يبدو كأنّه بين جيلين، وشتّان بين صراع جيلين، وبين صراع انتماءين: الانتماء إلى عصر النقل وشروحات المتون الدينيّة والفلسفيّة والحقائق النهائيّة ومعاكسة التطوّر - الانحدار الإنساني: حيث تستند مفاهيم هذا العصر على أنّ الإنسان ينحدر مع الزمن ولا يتطوّر وأنّ الماضي أفضل من الحاضر والحاضر أفضل من المستقبل، وبين الانتماء إلى عصر العلم والعقل والتطوّر الإنساني، حيث الحاضر أفضل من الماضي والمستقبل أفضل من الحاضر.

لقد فات على الحداثيين - أنّ الحداثة إذا حُشرت دلالتها في الجيليّة: (الأبنائيّة والتجديدية) تفضي إلى التقادم، لأنّها تتحوّل من ديمومة متطوّرة لرؤية العالم والإنسان إلى حال أشبه بالمراهقة التي تقوم بين الأبنائيّة والأبويّة، وطبيعيّاً أن أيّ جيل حداثيّ يتحوّل (بالتقادم الزمني) من الأبنائيّة إلى الأبويّة ومن الحداثة إلى الحراثة؛ (من فمك تأكل خبزاً)، من نقد الإنتاج والإدارة الأبويّة إلى الإنتاج والإدارة الذاتية؛ هكذا لا تموت الحداثة - الجيليّة (كحالةٍ وآلةٍ)، بل يتحوّل منتجها من الحيويّة والمعاصرة إلى الفتور والركود ثم التقادم زمنيّاً.. لقد حملت الحداثة - الجيليّة المزوّرة شيخوختها بنفسها بدلاً من خصومها لأنّ خطابها حمل دلالة غير دلالات الحداثة - العلمانيّة وديمومة العلم المادي إلى دلالة تعاقب موجودة داخل أيّ مجتمع أيّاً كانت طبيعته: دينيّة أو علميّة.. ودار الصراع بطوباويّة حول أشكال أدبيّة ونقديّة بعيدة عن الحداثة - العلمانيّة في موضوعات رئيسة بقيت حبيسة حلقات ضيّقة ولم تخرج للعلن؛ فإن كان جوهر الحداثة يقوم على الشكّ في مدى صلاحيّات منقولات الموروث ليس غاية في الطعن بالموروث، بقدر ما هو تحرّر من عوائقه، لأجل اكتشاف الأصلح للإنسان وسعادته (وهو ما تظهره الأرقام والإحصائيّات في ارتفاع متوسط عمر الإنسان، ارتفاع عدد المتعلّمين، زيادة وعي سكّان العالم تأثّراً بمستخرجات عصر العلم والعلمانيّة)، والمقصد ليس طعناً في التراث إنّما مراجعة صلاحيّات منقولاته الإنسانيّة، بناء على العلم والتجربة والنقد، والفصل بين المتجدّد والمتقادم، بين العلم والإيمان، بين المادة والخيال، بين الحقيقة النسبيّة والانتسابيّة وفساد الوهم ومخرجاته.

فما هي الحداثة الجيليّة؟.. وما هي الحداثة - العلمانيّة؟

(2)

المقصد من مصطلح الحداثة الجيليّة (أنّها فاصلة وليست نقطة انتهاء) في التعاقب بين جيلين على دلالة التجديد ضمن الإطار العام للجيلين، وهو غالباً، لا يكون خروجاً عن الرؤية العامّة للقاعدة الثقافيّة أو الاجتماعيّة إنّما الاختلاف في تنفيذها أو إدارتها، وهو ما يجعل الصراع الناتج بين الحرس القديم والحرس الجديد، صراع مراهقة وجوديّة طموحة في إثبات الذات، وهو صراع إنسانيّ موجود في أيّ حضارة، وأيّ زمان ومكان؛ فهي داخل تعاقب الأجيال في الطور الأسطوري - الوثني، والطور الفلسفي - الديني، وهي نادراً ما تحمل تغييراً عامّاً يُفضي إلى حدّ تاريخيّ، كما فعلت الأسطورة بحقبة ما قبلها، وعصر الدين، وعصر العلم؛ والحداثة الجيليّة مصطلح يتوافق مع دلالات اللفظة العربيّة كالجديد والمراهقة، الجهالة، لكنّها دون دلالات الرشد والعقل وهو ما يحمله اللفظ الأمّ مضموناً وواقعاً في عصر العلم.

أمّا الحداثة - العلمانيّة فالمقصد أنّها رشدٌ وعقلٌ واستقلالٌ، وأنّها تغييرٌ ونقطة انتهاء للعصور القديمة ودخول الإنسان الأوروبي إلى عصر جديد: يعتمد العلم المادي ويعلن ويطبّق نتائجه بغضّ النظر عن تعارضها مع منقولات دينيّة أو فلسفيّة وهو ما يظهر نضوج الإنسان وتحرّره من سلطة بعض الإنسان، والإيمان بالتطوّر بدلاً من المسلّمات، والحقائق النسبيّة المتغيّرة بدلاً من النهائيّة، وبلوغه الإنسان الرشد المادي لرفع الوصايا الإكليروسيّة لرجال الدين ومحتكري الفلسفة والمعرفة.. ممّا يجعلنا نعترض على ضآلة وتضليل ترجمة (modernity) بالحداثة، لأنّها ترجمة معاكسة لدلالة العصر العلمي والمادي، فشتّان بين مدلول اللفظة العربيّة ومدلولها الإنجليزية وواقعها، وخطأ الترجمة الفاسدة تحت تأثير معنى الجديد وإشكاليّاته (ألم يكن هناك جديد في العصور القديمة والوسطى! بلى، لكن المسألة في عصر العلم ليست مربوطة بالجديد المألوف، بقدر ما هي مربوط بجدّة عصريّة ماديّة، وهي الانتقال للأخذ بالعلوم من المنقولات والغيبيّات إلى الماديّات واعتمادها في تفسير العالم والإنسان واشتراك نتائجها في أمور الدولة بعيداً عن الاعتراضات الدينيّة)، أين هذا ممّا تصدّر اللفظة العربيّة من دلالتين على نقيض العصريّة والعلمانية، وهما: (دلالة التعاقب الطبيعي، وهي تصوّر الحالة أنها مؤقّتة، وكلّ مؤقّت مآله إلى زوال، وأنّها ليست حالة قائمة على نفسها ومدى تطوّرها. ودلالة المراهقة والجهالة وهي ضدّ مضامين العقل والرشاد والعلم).

(3)

اقتصرت التجربة السعوديّة على تجديد اللغة الشعريّة وطريقة قوله، وتحويل الشعر من حالة خاصّة إلى خطاب حداثيّ، وتحميل الشعر والنقد الأدبي ما لا يمكن أن يتحمّلانه، فلا يقدران أن يكونا قضيّة جوهريّة تقوم على أساسها حداثة وعي يسعى في إثبات قوّة العلم المادي والعلماني كأداة من أدوات صقل المواطن وتعزيز قدراته الإنتاجيّة والإدراكيّة، وبناء دولة على أسس علميّة، لأنّ المرجعيّة العربيّة سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً تتأثّر بالمتون الفقهيّة وليس بالمتون الشعريّة، هكذا تكون حداثة الدولة ومكوّناتها مرتبطة أساساً بنقد المتون الفقهيّة والتشريعيّة التي تعيقها من اللحاق بالعلم والإنتاج والحضارة والقوّة.

(4)

يحمل الواقع الثقافي السعودي اليوم بعض آثارٍ إيجابيّة متراكمة، استطاعت إبقاء المسألة الثقافيّة معلّقة وغير قابلة للانقراض، وهذه المؤثّرات الإيجابيّة مُرحّلة من فترات سابقة: مسائل المدينة والعلميّة من باكورة التأسيس الثقافي، القوميّة ونقد الذات، الاضطّلاع الثقافي الإنساني تأثّراً بفترات المدّ والتأثّر بالمحيط والعالم، المسألة الحقوقية، ولعلّنا لا نتّفق جزماً على أثرٍ إيجابيّ في مضمون ثقافي مُرحّل من صميم طروحات فترة الثمانينيّات: (الحداثيون والصحوييون)، باستثناء قيمة الجدل والحوار، وما قد ينتج عنها من عدوى فيروس (حريّة القول والفعل) والرغبة اللحوحة في زيادة هذه المساحة لأجل حسم الصراع، وهي المساحة التي لم تزدد حينها لخللٍ في إدارة الصراع وتوجيهه لخصم لا يملك تعديله حتّى في حال هزيمته، لأنّ السلطة لم تكن طرفاً، بل صبَّ في مصلحتها الالتهاءُ عن مسائل سياسيّة داخليّة وإقليميّة مصيريّة.. وشيءٌ من هذا يتّضح أكثر حينما نتابع حملان الحداثة - الجيليّة لمسائل لا تقترب من نقد السلطة، ونقد تضييق الحريّات، فالحريّة مفتاح الحداثة - العلمانيّة، فكان أن حملوا في غياب الحريّة حداثة مزوّرة.. وحينما أقول (حداثة مزوّرة)، فالمقصد في التوصيف محلُّه المنتج: وليس التوصيف محلّه الشخوص، الذين تعلّقوا بما تصوّره حداثة وقدّموا دفوعات عنها، على ظنّ البعض منهم أنّ الشعرَ والأدبَ يمكن أن يُهرّبَا أو يدخلا منظومة علميّة - علمانيّة والقطع بها بدلاً عن قوّة المدوّنة الدينيّة الانتقائيّة، أو أنّهم تعلّقوا بالحالة التي خلقها الصراع الموهوم، فأعطاهم إيحاءً عوضيّاً عن النضال الوطني وعن التحزّب السياسي وما ينجم عنه من حوارات أهليّة في دول أخرى، والحال لم يكن في طرف دون آخر، كما أنّ الأصوليّة أرادت أن تختلق أيّ معركة دونكيشوتيّة ذات أجندة تجييريّة (تجيير العنف والخطر إلى طرف جديد في المجتمع) تهدف إلى رفع تهمة التطرّف والتشدّد عنه، بعد أن كادت أحداث الحرم أن تعصف باليمين الديني - السياسي في السعودية، لكنّ أحداً من المثقّفين لم يُحسن استغلال الموقف وتقويمه لمصلحة حتميّة الحداثة - العلمانيّة في ضمانة السلم الأهلي، بل تحوّل الحدث إلى تابو بالانشغال بأجندات إقليميّة؛ هكذا كان صراع الأصولي - الصحوي صراعاً مزوّراً، غايته الدفاع عن تيّاره الذي تلّقى ضربة تاريخيّة كادت أن تطيح به نهائياً عبر تشريعات تجرّم الدعوة إلالعنف والتكفير، لكن أيّاً من تلك التشريعات لم تظهر، ولم تُقدم مرافعات ثقافيّة - سياسيّة مطالبة بها، حتى أحداث أيلول 2001، والتي تزامنت مع انتشار الإنترنت والقنوات الفضائيّة وظهور الحالة الثقافيّة الحقوقيّة كرافد من روافد فترة بروتستانت الثقافة، فكان من ثمارها تشريعات 2014 التي تجرّم العنف والتكفير بموجب تشريعات وقوانين، ويبقى التنفيذ والاستمرار والتقويم محلّ اختبارٍ وجديّة.

لقد استغلّت الأصوليّة حينها انشغال السلطة السياسية بمشاكل إقليميّة واحتياجها لليمين - السياسي للتعبئة الخارجية، فكانت ضرورة الأصولية أن تختلق خطراً على المجتمع تفتدي به نفسها ويكون بديلاً عنها، أو بدلاً من إبقاء الخطر في جعبة اليمين السياسي - الديني, وهذه الفترة - شبه الثقافيّة، صُوّرت أنّها قضيّة داخليّة وأنّها بديل عن الفكر الحزبي السياسي، أو اليسار السياسي، وهذا التصوير للقضيّة الموهومة بَقِيَ في إطار المنشغلين بهذه المسألة من الطرفين، وفي حدود حلقة مغلقة على نفسها، ولم تستطع أن تكون مرتبطة بجدّية في حراك المجتمع أو السلطة أو التنوير؛ ولم يستو مفهوم الحداثة نفسها لإنتاج تيّار يحمل صفة الديمومة المتطوّرة، لأنّها ربطت مفهومها الذي قدّمته بالحداثة الجيليّة، وليس بالحداثة - العلمانيّة.

** ** **

تنويه: نشرت الحلقة الماضية تحت عنوان (المسألة الثقافية السعودية.. تيه القضية الرئيسية-6) والصواب: (المسألة الثقافية السعودية .. وأد الحداثة العلمانية -6)

ياسر حجازي- جدة