Saturday 07/06/2014 Issue 441 السبت 9 ,شعبان 1435 العدد

قصة قصيرة

العودة

أُدخل رأسُها في الكيس وغطّى سواده ما حولها وتراءت لها في الظلام أمها وهي تجلس على الكرسي أمام حمامات النساء في المول الكبير لتمدهن بأوراق المناديل والصابون أو تحفظ لهن غرضًا حقيبةً أو عباءةً، وكانت لا ترى يدَ أمها، التي تصحبها في بعض الأحيان هي وأختها إلى المول، بعد هذه الجلسة الطويلة أمام الحمامات وتدفق النساء طوال فترة المول على الحمامات تُرفع لامرأة لتنقدها القليل من الريالات إلا كل مرة من عشرات المرات.

استدارتا على طاولات المطاعم ومحلات الوجبات السريعة، كعادتهما عندما تصحبهما أمهما إلى المول، لتشربا بقايا أكواب الكوكاكولا لكنهما اليوم لم تجدا الكثير من البقايا؛ قررتا الذهاب إلى أمهما لطلب نقود؛ فلم تكن حصيلتها من الجلوس الطويل أمام الحمامات إلا أربعة ريالات، قالت أختها أربعة ريالات لا تكفي لشراء كوبين من البيبسي. سألتا امرأة، تجلس في إحدى استراحات المول تتناول وجبة وكان معها ذلك الكوب الكبير من البيبسي، عن سعره، فقالت حصلت عليه مع وجبة متكاملة دفعت فيها خمسة وعشرين ريالاً قيمة الوجبة. ذهبتا إلى بائع الوجبات الخفيفة وطلبتا كوبين من الكوكاكولا، قال الكوب الواحد بثلاثة ريالات. قالت أختها لماذا لا نشتري علبة بيبسي بدلاً من الكوب، الواحدة بريـالين بذلك نحصل على اثنتين. قالت: لا، أريد كوبًا كبيرًا مليئًا بالثلج وله مصاصة، لأني ذات مرة مررت بجوار طاولة تركها أصحابها بعد تناول وجباتهم ولم يصلها بعد نادل التنظيف وشربتُ ما قد تبقّى فيه من الكولا، كانت لذيذة بشكل غريب، لا يشبه طعمُها طعمَ كولا العلب؛ يقرقر الثلج فيه وتدفع المصاصة السائل البارد من قعر الكوب ليمر باللسان ويلتصق حلاه فيه، ليس كالعلبة تدفعه مباشرة للحلق.

اتفقتا أخيرًا على شراء كوب واحد لكلتيهما. جلستا على إحدى عتبات المحلات وبينهما الكوب الكبير المليء بالثلج تتسابق أيديهما على رفعه لشفط، عبر المصاصة الكبيرة، ذلك السائل السكري المثلج. قالت دعينا نخرج ونشرب الكولا خارج المول هنا المكيفات شديدة البرودة، والطفلة هناك تنظر إلينا متعجبة من الكوب الواحد لاثنين.

جلستا على حافة رصيف من أرصفة الشارع وبينهما كوب الكولا، وكانت تجلس خلفهما على الرصيف نفسه امرأة كلما مر بها مارٌّ أسقط في يدها نقودًا، ولاحظتا أنها عندما يفرغ الرصيف لدقائق من المارة تفتح حقيبة وتضع الفلوس. قالت لأختها: انظري في الدقائق القليلة التي جلسنا فيها حصلت ربما على مئة ريـال، وأمي التي تنظف الحمامات طوال اليوم وتدعك بلاطها وترش المساحيق المسببة للحساسية وتضغط السيفونات بعد خروج كل امرأة وتجلس لتمد السيدات بالمناديل والصابون وتحفظ لهن حقائبهن وأغراضهن تَمُرُّ الواحدةُ منهن دون أن تضع في يدها ريالاً واحدًا، وهذه تجلس دون عناء ولا مشقة في هواء نقي خال من الروائح وتحصل على كل هذه المبالغ.

بينما تتدافع أيديهما على الكوب الفارغ تمامًا مر بمحاذاتهما رجل فرفعت يدها مازحة ومقلدةً المرأةَ خلفهما، بسرعة ودون انتباه منها وتوقع سحب الرجل من جيبه ثلاثة ريالات ووضعها في يدها وعدَّ دون أن ينظر إليها أو يعطيها اهتمامًا. انفجرتا ضاحكتين، تتمايل إحداهما على الأخرى.

عندما استويتا مع أمهما على مقعد سيارة الأجرة في منتصف الليل وقت إغلاق المول نظرتا إلى الرصيف وتذكرتا الموقف وضحكتا. وقالت لأمها: ماذا تستفيدين من جلوسك قبالة الحمامات وأنت لا تحصلين إلا على الريـال والريالين؟ ردت الأم: لي راتب، قولي الحمد لله إن الريـال والريـالين غيرَ الملزِمات النساءَ بدفعهن ندفعها أجرةً للتاكسي وإلا أكلت المشاويرُ الراتبَ.

استهوتهما الشحاذة دون علم أمهما كلما صحبتهما معها إلى المول. حتى بعد موت أمهما بثلاث سنوات إذ بقيتا في الغرفة الوحيدة الذي اجتزأ الجصُّ منها مترًا طولاً وعرضًا ليحوي في داخله جُحرًا وسطلاً مُعْبَّأ بالماء لينتهي مسماه بالحمام، وفي إحدى زواياها كَانُونٌ بجانبه صندوق يحوي مواعين جنيت عبر السنين من مكبات القمامة في أحياء الطبقة الوسطى المحيطة بحيهم؛ وهذا ما يسمى بالمطبخ. الغرفة هي ورث الأم وطفلتيها بعد وفاة الأب منذ سنين في الحي الشعبي الفقير المنسي في التعاريج المظلمة للمدينة الشاهقة بالمباني العالية، الحي الذي هجره معظم سكانه من أهل البلد وسكنه بعضُ الجاليات المخالفة القانونَ أو المقيمة قانونيًّا لكن مازالت لم تجمع المال الكافي من العمل لقصر مدة إقامتها في البلد، وبعضُ السكان من أهل البلد الذين أقعدهم ربُّ الأسرة في مجاري هذه الدعاويس المنسية وجحورها الضيقة بسبب إزهاق ماله في المخدرات.

ذات ليلة وهما جالستان تفرقان محصول الشحاذة بعد يوم مديد قضتاه في التسّكُع في الشوارع؛ رأت أنها أحق بالنصيب الأكبر لأنها سعت في مسافات بعيدة وراء الناس وغامرت بالدخول بين السيارات في طريق عام وسريع، لكن أختها رفضت هذه القسمة لأن شرط توزيع النصيب لم ينص على طريقة الشحاذة بل على جمع المال المشحوذ وتقسيمه بينهما. تشاجرتا وتشابكتا بالأيدي وعيّرت الأخت الكبيرة الصغيرة بكلمة جارحة فما كان من الصغيرة إلا أن أخذت المخدة الهريئة المتسخة وألصقتها في وجه أختها، ولم ترفعها إلا وأختها قد فارقت أنفاسُها الحجرةَ وصارت جسدًا جامدًا أزرق.

عندما ذهب الغضب لم تشعر بالندم ولا الحزن على أختها وكأن الذي غادر الحياة شيء لا يعنيها بل إنها أحست خفةً في الحياة وكثرةً في المال. وجاء إلى عقلها الخالي من أيما معلومة عن التحلل والامتصاص وكل ما يتعلق بالأجساد وفنائها اقتراحٌ هدية من الشيطان عملت بموجبه؛ فاشترت شنطة وملأتها بالتراب ووضعت جسد أختها فيه وركنتها على جدار من جدران الغرفة، التراب الذي لا تعرف هي خصائصه لكنها استلهمته بالفطرة خلصها من رائحة العفونة وسيخلصها من الجسد كاملاً.

بعد ستة أشهر، أشهر قضتها في حرارة شديدة ورطوبة عالية سمعت في عز نومها طرقات وخبطات، صحت عليها مفزوعة تنظر في كل اتجاه في الغرفة الضيقة، فلم تتبين مصدر الضربات، وضعت أذنها على باب الغرفة فلم تسمع شيئًا، خافت من أن يكون مصدر هذا الطرق أحد السكارى الذين يملؤون الحارة في نهاية الأسبوع وفي أواخر الليل. رجعت إلى فراشها خائفة من هذا الهاجس. أغمضت عينيها تحت الغطاء بذهن نشط، طيّر الفزعُ منه النومَ. في اليوم التالي وهي نائمة، وقد أذهب عنها الدورانُ في الشوارع قلقَ الأمس وحتى التفكير فيه، سمعت خبطات أشد من خبطات الأمس وأعلى، قامت على إثرها تتبع المصدر وقادها صوت الخبطات إلى الشنطة، تلبّسها الرعب من صاحب الطرقات، والخوف من انكشاف أمرها إذا ظلت هذا الضربات بهذا المستوى المسموع. عزمتْ على ألا تفتح الشنطة حتى يطلع النهار. خفّت الضربات وتباعدت مراتها. في الصباح قررت تناسي الصوت وأنه سيخمد مع مرور الوقت من تلقاء نفسه، هذا القرار أشعرها بالقوة والارتياح. في الليل قامت مفزوعة من هبدات تضرب غطاء الشنطة فيرتفع.

وضعت المفتاح في القفل وفتحت الشنطة ورفعت الغطاء بسرعة شديدة مبتعدة تجاه باب الغرفة، لم يخرج شيء، انتظرت فلم يظهر شيء، تقدمت على حذر مبقية إحدى رجليها قرب الباب مادة الأخرى إلى الشنطة لتنظر داخلها، فإذا كائن حي طويل وعريض يلف جسمَه على شكل دوائر لكبر حجمه مع ضيق المكان. أخرجها الرعب من الغرفة تطلب النجدة من أقرب بيت مسكون في الشارع، فخرج لها أهله ظانين أنها تطلب الإسعاف لأهل بيتها، فلما رأوا الكائن ذا الفقرات العديدة والأرجل الكثيرة بحجمه الضخم غير الطبيعي خافوا الاقتراب منه وطلبوا الدفاع المدني. شكَّ الدفاع المدني في أمر الشنطة المملوءة بالتراب وأحالوا الفتاة لأحد مكاتبهم للاستفسار، ولعجب منظر الكائن أمروا بعدم قتله ونقله إلى مختبر أحياء.

قال طبيب المختبر للضابط: الرطوبة العالية والحرارة الشديدة التي مرت في الأشهر السابقة مع المكونات العضوية الصادرة من جسم الميتة مع التراب الذي أيضًا له مركبات عضوية شبيهة بالمكونات العضوية للإنسان تكوّن بقدرة الله عز وجل هذا الكائن الحي. وجميع الكائنات الحية خلقها الله تعالى بهذه الطريقة؛ اتركْ بقايا طعام في مكان حصين رطب وحار فإنك ستجد بعد فترة أن كائنات حية خُلقت من المركبات العضوية لهذا الطعام. وعامةً عنصر البروتين إذا وجد في أيما عنصر تحت حالات مناخية معينة قد يُخلق منه كائن حي مثل الحشرات الطائرة، خصوصًا عندما يتعرض هذا البروتين إلى التراب عبر الغبار. وأعتقد أن الله سبحانه قد خلق آدم بهذه الطريقة، وجميع كائنات القبر من خنافس وعقارب وحيات ودود يخلقها الله بهذه الطريقة أي بطريقة التكوُّن وليس بطريقة التزاوج. فلو أنك عزلت جثة إنسان في مكان حصين مثل التابوت أو غيره أو حتى زجاج ستجد ذات يوم وفجأةً كائنات حية هوامَّ وحشراتٍ تتحرك تروح وتجيء؛ تكوّنت بدعم الرطوبة الموجودة في جسد الميت، فإذا أردت إبقاء الشيء بعيدًا عن تكوُّن الكائنات منه؛ جففه من كل رطوبة داخله. وقاعدة وجود التراب على بروتين في جو رطب حار ليست قاعدة أساسية لخلق كائن حي، لأنك لو وضعت طحينًا في كيس داخل ثلاجة ورجعت له بعد فترة فلربما وجدت كائنات حية خلقها الله مثل السوس. وهذه الدابة الكبيرة التي أمامنا شبيهة بسُرْفة الثمرات ذات المفصليات المتعددة والأرجل الكثيرة، ولكن الاختلاف في الحجم إذ لم أر في حياتي حيوانًا زاحفًا في ضخامته وطوله وعرضه.

قال الشيخ للضابط: ربما لم تكن المتوفاة تصلي، وهذا الكائن هو الثعبان الأقرع المسمى الشجاع الأقرع المختص بتعذيب تارك الصلاة، لكن أرجو ألا تنشر الخبر للعامة لأن صور عذاب القبر لا تظهر للعيان، والله أعلم.

قال الضابط: الروح نفخة أو نفحة الله سبحانه وتعالى، والنفس هي الدم لذلك شربُ الدم محرمٌ في جميع الأديان السماوية لأنه هو النفس. وجسد الكائن الحي يتكون من روح ونفس؛ فأعتقد أن هذا الكائن الحي يحمل روح الأخت المقتولة، وجسد تختلف صفاته التكوينية عن الجسد البشري لأن المركبات العضوية المتكوِّن منها اختلفت تركيباتها واختلفت أجواؤها المناخية.

ودَّع طبيب المختبر الضابط والشيخ وقال: أيًّا يكون، نحن في المختبر سنضع هذا الكائن الحي تحت الملاحظة لدواع دراسية وبحثية، وأضاف ضاحكًا: وسنطلق عليه لقب أم أربع وأربعين رِجْلا أو السرو الكبير.

عندما صدر حكم الإعدام بحقها طلبت أن تعدم شنقًا وحين عارضوها لأن هذه الطريقة في الإعدام غير معمول بها في البلد. قالت: البهيمة يُحرَّم خنقها لأنها تؤكل والخنق يحجر الدم ويحجزه في الجسد فيفسد ويتسمم، وأنا لا أظن أن أحدًا سيأكلني إن قتلت.

أُدخل رأسُها في الكيس وغطّى سواده ما حولها، الساعة الثامنة صباحًا عندما تأرجح جسدها فحصه الطبيب وقال: سبع دقائق وتخرج الروح.

فوجئ مساعد طبيب المختبر عند دخوله المختبر الساعة الثامنة صباحًا بالكائن الفقري الضخم منقلبًا على ظهره بالكاد يحرك أرجله الشعرية الدقيقة والكثيرة جدًا ويتنفس بصعوبة كأنه يحتضر، فاتته ملاحظة الكيفية التي تمت بها طريقة الانقلاب.

أمر الطبيب عندما بقي القلبُ يدق أكثر من سبع دقائق بإحضار مشرط ليكشط الشرايين ليتوقف القلب وتخمد الأنفاس، قشد شرايين من الرقبة وشرايين من اليدين والرجلين فسالت الدماء المتحجرة وسالت روحها خارج جسدها.

نادى مساعدُ طبيب المختبر رئيسَه وأخبره أن حركة الكائن توقفت تمامًا وأنه دَهِشٌ ومستغربٌ سيلانَ دمٍ من جسده مع أنه لم يُجرح.

- سعاد فهد السعيد