Saturday 08/03/2014 Issue 431 السبت 7 ,جمادى الاولى 1435 العدد
08/03/2014

(الموت) في التراث الشعري(1)

لم تكن مشكلة (الموت) سوى واحدةٍ من مشكلات عدَّة كانت تشغل هاجس الشاعر العربي القديم، غير أنها تكاد تكون أعقدها وأكثرها غموضاً والتباساً لديه، مع أنَّه موقنٌ برحيله، بل إنه يشعر بهذا (الرحيل) في كثير من الأوقات، حيث يرى بأمِّ عينه قوافل الموتى تسير إلى قبورها في كلِّ يوم، فالموت تجربةٌ (ذاتيةٌ) (فرديةٌ) غير قابلةٍ إطلاقاً (للتكرار) و(الإنابة).

إنَّ هذه التجربة المرعبة -كما يقول الفلاسفة- تشبه تجربة (الميلاد) من حيث (الذاتية) و(استحالة التكرار)، ومن حيث (الانتفاء) و(الإرادة)، وهي (ديموقراطية) حياةٍ محمولون عليها رغماً عنَّا! وكلتا التجربتين -(الموت) و(الحياة)- تجربةٌ (شموليةٌ) (كونيةٌ) تمرُّ بها المخلوقات جميعاً لا الناس وحدهم، رغم ما تتميَّز بهما من (فرديةٍ) و(ذاتية)، غير أنَّ المفارقة في تجربة (الموت) أنها مفاجئةٌ أو كالمفاجئةِ مع أنها (متوقَّعة)! وتكمن مفاجأتها في عدم معرفة زمانها أو مكانها، فلا أحد يعرف متى يموت وكيف يموت؛ فذلك من الغيب الذي اختصَّ المولى عز وجل بعلمه وهو الحكيم الخبير.

لقد آمن الشاعر العربي أنَّ الموت تجربةٌ (غامضةٌ) (مثيرة)، تحتفظ بغموضها وإثارتها احتفاظاً مطلقا، فليس ثمة مخلوقٌ يمكن له أن يكتسب (خبرةً) من الموت سعياً إلى كشف (غموضه) و(إثارته)؛ لسببٍ بسيط، وهو أنَّ طبيعة (الموت) تلغي الخبرة الناجمة عنه، وبسبب ذلك ينطلق (الخيال) في فضاء الرؤى والتصورات، وهنا تبزغ فكرة (الخلود) كفكرة مضادَّة للموت الذي يعني (الفناء) في صورته الأولية.

لقد وقف الشعراء أمام (الموت) حيارى مذهولين، لا يملكون أيَّ (تعليلٍ) لحدوثه أو فهم (أسراره)، فقد أفسد عليهم (الحياة) كما يقول أحدهم، وما دام (الموت) في كلِّ مكانٍ يملأ السمع والبصر، نشعر بوجوده ونحسُّ أنه أقرب إلينا من حبل الوريد، عصيٌّ على المعرفة ومتلفِّعٌ بالغيب، فلا غرابة أن يحار في أمره الشاعر الجاهلي هذه الحيرة القاسية التي تنتهي به إلى (العجز) و(الاستسلام)، ولا شكَّ أنَّ (التواشج) الذي نشأ بين (الموت) و(الدهر) هو نتيجةٌ طبعيةٌ لهذا العجز والاستسلام، فالتبس أحدهما بالآخر حدَّ (التماهي)، وإن ظلَّ مفهوم (الدهر) أشمل من مفهوم (الموت) وأرحب وأعمق.

لقد كان الشاعر القديم ينظر إلى (الدهر) نظراتٍ مختلفة، حسب الإيمان الذي يؤمن به، والثقافة التي اكتسبها في حياته، وغالباً كان ينظر إليه بوصفه (صيَّاداً) يتَّخذ من (الموت) سهاماً ونبالاً له، كما تكون (المصائب) و(الأرزاء) بعض تلك السهام، فهذا (عمرو بن قميئة) يقولُ شاكياً ومعتذراً بالعجز أمام (بنات الدهر):

رمتني بناتُ الدهر من حيثُ لا أرى

فكيف بمن يُرمى وليس برامِ

فلو أنها نبلٌ إذاً لاتَّقيتُها

ولكنني أُرمى بغير سهامِ

ويقول (الممزق العبدي) في نصٍّ آخر مؤكِّداً النظرة نفسها:

كأنَّني قد رماني الدهر عن عُرُضٍ

بنافذاتٍ بلا ريشٍ وأفواقِ

وحيناً ينظر الشاعر القديم إلى الدهر بوصفه (خدَّاعاً) لا يعرف سوى المكر والخديعة كما في قول (قيس بن الأسلت):

أقضي بها الحاجات إنَّ الفتى

رهنٌ بذي لونين خدَّاعِ

وقد يكون هذا الصياد في نظر بعض الشعراء (حيواناً مفترساً) يتصف بالمخاتلة والقسوة؛ كقول امرئ القيس:

وأعلمُ أننَّي عمَّا قليلٍ

سأنشبُ في شبا ظُفُرٍ ونابِ

وإذا كان هذا هو تصور الشعراء للدهر فمن الطبعي أن يملأ (الموت) نفوسهم بالجزع، ويقذف في قلوبهم الرعب، بل إنَّ بعضهم يصوِّره آكلاً للحوم البشر ومولعاً بالتهامهم، يقول (أبو ذؤيب):

فإنَّ الرجال إلى الحادثا

ت -فاستيقننَّ- أحبُّ الجُزُر

ويقول في نصٍّ آخر:

منايا يُقرِّبنَ الحتوف لأهلها

جهاراً ويستمتعنَ بالأنس الجبْلِ

وحينا ينظر الشاعر إلى (الموت) بوصفه خصماً جبَّاراً لا يدفعه دافعٌ و لا يردُّه راد، ولا يغني في صدِّه شيءٌ من مالٍ أو شجاعةٍ أو مجدٍ أو حصون، ولا تؤثِّر فيه رُقىً أو تمائم، كما أنَّ له منطقه الخاص الذي يختلف تماماً عن منطق البشر، حيثُ الغموضُ المجهولُ الذي لا يكترث بمنطق الحياة وأبنائها، وهذا المعنى يتردَّد كثيراً في نصوص الشعر القديم، فكأنَّ الشاعر يرثي الحياة ذاتها، ويضن بها على الموت، ويستكثر عليه أن يذهب بها وبأمجادها، ف(المنايا لا تطيش سهامها) كما يقول (لبيد بن ربيعة)، و(فإذا المنية أقبلت لا تُدفعُ) كما يقول أبو ذؤيب، وهو الذي يقول بعد ذلك:

وإذا المنيَّة أنشبتْ أظفارها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ

وكلَّما تعمَّق في النص أدرك مدى صدق هذه الحقيقة، وأيقن أنه لا شيء ينفع حين يهجم الموت، ولا شيء يدفع هذا الناموس الذي لا بُدَّ أن يزور الخلق أجمعين:

وكلاهما قد عاش عيشة ماجد

وجنى العلاء لو انَّ شيئاً ينفعُ

وماذا تفيد (لو) سوى التوجع والحسرة؟

- الرياض omar1401@gmail.com