Saturday 08/11/2014 Issue 450 السبت 15 ,محرم 1436 العدد

ضحايا الترجمة!

من يقلب صفحات التاريخ سيجد وقائع عديدة لأشخاص دفعوا أثماناً غالية مقابل أفكار يؤمنون بها. والترجمة من المجالات التي شهدت أحداثاً محزنة لأناس فقدوا حياتهم وآخرين تعرضوا لمضايقات بسبب المنهج الترجمي الذي يتبعونه. سنلقي الضوء في هذا المقال على حادثتين تبينان التضحيات التي قدَّمها بعض المشتغلين بالترجمة. العامل المشترك في الواقعتين أنهما حدثتا في القرن السادس عشر الذي شهد صدامات كثيرة وعنيفة بين ممثلي عصر النهضة وممثلي تيار الإصلاح من جهة والسلطة الدينية من جهة أخرى.

تجدر الإشارة هنا إلى أن تيار الإصلاح ارتبط باسم الألماني مارتن لوثر الذي دعا في القرن السادس عشر إلى اتباع إستراتيجية جديدة في ترجمة الانجيل، ألا وهي ترجمة الإنجيل بلغة ألمانية مبسطة يفهمها عامة الناس، وهو ما كانت ترفضه الكنسية الكاثوليكية التي كانت ترغب في أن يظل الإنجيل مكتوباً بلغة يصعب على عامة الناس فهمها (وهي اللاتينية) وذلك لكي يكون لها وحدها الحق في تفسيره وشرح محتواه للعامة.

ويمكن تلخيص منهج لوثر الترجمي في ما قاله لوثر نفسه: الترجمة لا تعني أن تفهم أنت (أي المترجم) النص الأصلي، ولكن الترجمة تعني أن تجعل النص مفهوماً للآخرين.

جدير بالذكر، أنه بالإضافة إلى النشاط الترجمي التطبيقي الذي كان يقوم به مارتن لوثر، فقد تناول الجانب النظري العلمي للترجمة في مصنفه: رسالة حول الترجمة، والذي ألّفه في عام1540 .

أما الحادثة الأولى: فهي مرتبطة باسم وليم تنديل، أحد تلاميذ لوثر. قام تنديل بترجمة الإنجيل إلى اللغة الإنجليزية مسترشداً بالمبادئ الترجمية التي وضعها لوثر، وهي ترجمة الإنجيل بلغة «شعبية». بعد أن أتم تنديل ترجمة العهد الجديد من الإنجيل حاول نشر الترجمة في إنجلترا ولكن محاولاته باءت بالفشل، فتوجه إلى ألمانيا خوفاً على حياته ونشر فيها ترجمته. في عام 1536 عاد إلى إنجلترا، فقبض عليه واتهم بالهرطقة وأحرق! ومن ما يثير الدهشة أنه بعد إعدام تنديل بفترة ليست بالطويلة اعترفت الكنيسة الكاثوليكية بترجمة تنديل التي أُعدم بسببها!

أما الحادثة الثانية فقد وقعت في فرنسا، ويصفها اتكيند بشكل معبر قائلاً: تاريخ الترجمة في فرنسا يبدأ بمأساة! والضحية هنا هواتيين دولي، الكاتب والمترجم الفرنسي المعروف، وأحد أقطاب عصر النهضة في فرنسا. تميز اتيين دولي أنه لم يكتف فقط بممارسة الترجمة، ولكنه انتقل إلى دراسة عملية الترجمة ووصفها بشكل علمي وتحديد سماتها الثابتة والمتكررة واضعاً بذلك إطاراً نظرياً لعلمية الانتقال من لغة إلى أخرى. وقد تبلورت هذه الملاحظات العلمية للترجمة في مصنفه: حول الطريقة الصحيحة للترجمة من لغة إلى أخرى. ألف اتيين هذا المصنف في عام 1540 ويعد أحد أول المؤلفات العلمية الأوروبية التي تتناول القضايا النظرية للترجمة.

فيما يتعلق بالحادثة التي وقعت لاتيين دولي، فهي أنه أثناء ترجمته لأحد حوارات أفلاطون، قام بإضافة كلمة في الترجمة الفرنسية لا وجود لها في النص الأصلي. الكلمة التي أضافها دولي اصطدمت مع مبدأ كنسي متعلّق بخلود الروح، وهو ما اعتبرته محكمة التفتيش الكنسية ضرباً من ضروب الهرطقة، واستغل أعداؤه هذا الأمر ضده وحكم عليه بالإعدام حرقاً في عام1546!

الملاحظ في الحادثتين أنهما وقعتا في وقت واحد تقريباً واتهم الشخصان بنفس التهم وأعدما بنفس الطريقة! إذن كما نرى، فقد كانت الترجمة عنصراًَ رئيسياً في النزاعات التي كانت قائمة بين التيارات المختلفة. إذا أردنا أن نصف وضع الترجمة في ذلك الوقت، فنقول: كانت الترجمة لدى البعض تهمة ووسيلة للاستعداء ثم المحاكمة فالقتل، كانوا لا يريدون للترجمة أن تخرج عن النهج الذي وضعوه في التعامل مع النصوص الدينية في الدرجة الأولى، وغير الدينية في الدرجة الثانية. كان الخصم الذي يواجهه المترجمون في ذلك الوقت هي الكنيسة التي كانت تحاربهم بسيف الدين، ومن يخرج على ما يعتبرونه من المسلّمات فإن التهمة جاهزة وهي الهرطقة، والحكم جاهز وهو الإعدام. ومن جهة أخرى، فقد كانت الترجمة لدى الفريق الآخر هي وسيلة للتعبير عن بعض الأفكار «التصحيحية» لما كانوا يعتقدون أنه غير صحيح. ومن أشهر العصور التاريخية التي شهدت صدامات ترجمية عنيفة هو، كما ذكر آنفاً، عصر الإصلاح اللوثري الذي يصفه العالم الفرنسي كاري بأنه كان «معركة بين المترجمين»!

إذن، فقد كانت الترجمة أداة صراع أديولوجي، يحاول كل طرف أن يخضعها لتوجهه لكي يحقق من خلالها أهدافه وينشر بواسطتها أفكاره. من يتتبع تاريخ الترجمة الغارق في القدم لا بد أن يصل إلى نتيجة واحدة: وهي أن الترجمة كانت ولا تزال مكوناً رئيسياً في الحياة الثقافية والاجتماعية والعلمية في جميع العصور التاريخية ولدى مختلف الحضارات الإنسانية.

يا لهذه الترجمة: مالئة الدنيا وشاغلة الناس!

د. بدر بن عبدالله العكاش- أستاذ علم الترجمة المساعد – جامعة الملك سعود Albadr15ru@yahoo.com