Saturday 08/11/2014 Issue 450 السبت 15 ,محرم 1436 العدد
08/11/2014

جليلة جليلة

تفاجئنا جليلة الأضرعي القاصة اليمنية الموهوبة بمجموعتها القصصية الأولى (شوارب) بجمال سبك لغوي يحاكي الصور المعهودة بلغة غير معهودة، فنجد حشدًا من مثل هذه الصور البديعة: «مستظلًا ببراءتها»، «فتنتحر الكلمات بداخلي»، «حملتها على وثنين من سراب وُعودي»، «كان آخر عود ثقاب معي يطلب الإذن بإحراق جثمانها فمكنته من ذلك»، «انزلقت الفرشاة على خديها..تدحرج أحمر الشفاه على شفتيها»، «فككت أسر عينيّ»، «فبادرته بحماس يتقافز من شفتيها»، «رجفة غرست مخالبها في أطرافي»، «اعتقلت المزيد من الهواء بين رئتي»، «أما أنا فقد دعاني أحد الكراسي للجلوس».

استفادت القاصة من قراءاتها التراثية والحديثة، تمثلتها فأحسنت استعمال جمل منها، وأما التراث فكان أثره واضحًا في التعبير الموجز البريء من خطل ترهل جمل بعض المحدثين، وتجد أثره في لغتها: «وحسبت أن رجزًا من السماء سيصيبنا»، «استنجدت بعمود يعصمني، لكن يبدو أنه لا عاصم اليوم».

الرمزية والسخرية سمتان بارزتان من سمات هذه المجموعة تبدأ الرمزية من عنوانها (شوارب) الذي يرمز لقيم يحفل بها العالم الرجولي لتتعدد ألوان تلك الجوانب المعبرة حقًّا أو زيفًا عن تلك الرجولة تبسطها القاصة في حوادث يكاد يجزم القارئ أنه يعرفها أو يعرف مثالها؛ ولكنها تنسجها بلغة طريفة موحية تنهي لك الرسالة بسخرية عميقة، فالرجولة في (فحولة) استحالت إلى وحشية لم يدرأها حب وإعجاب قديم، والتزين في «الرقص مع الأشباح» لم يستدرج الرجل الملول المتطلع لنعجة أخيه، والوعود في (لسعة ورقة) ليست سوى أثر أحلام وهبتها ورقة قات جعلته يهذي بتحقيقها حتى إذا أفاق كان قد أنسي أمرها «أية شرفة؟!»، وفي cut استحالت الرجولة إلى سلبية تكتفي بالرصد التصويري للمشهد حيث يختلط التمثيل بالواقع المعيش، ولكن الرجولة تنهار أمام ضعف الأنثى وإن كان مصطنعًا مزيفًا في (حلال) «لفها بذراعيه.. ارتمت كريشة في حضنه، وهي تنظر إلى البصل من خلف ظهره وتقول: الله لا يحرمني منك» وهي نقطة تنوير. ومن السخرية أن الرجولة لا تظهر إلا أمام الضعفاء، في (سيدي حسن) تختم القصة «نظر الشيخ من خلف قضبان نافذته؛ ليتبين مصدر الضوضاء والصراخ، فأعطى الأمر فورًا بالانطلاق؛ بعدما تبين له أنَّه حسن!». وفي «التنور» تجري محاولة خبز قد يؤول إلى «فتات خبز متفحم» ولكنه يُفتخر به، وهو ما تؤول إليه طبخ السياسة التي جاء ذكرها عرضا «وما تضج به من هتافات مؤيدة لأحد المرشحين السياسيين وصدى خبر تنقله شاشة التلفاز عن تظاهرات واحتجاجات»، وتسخر القاصة في (براءة الشيطان) من شعبذة بعض القصاص وقسوتهم وجهلهم في تعاملهم، ولعلها تقصد (الجن) لأنه هو من يتهم بتسلطه على جسد الآدمي حتى يتولى قارئ أمر طرده بالقراءة وربما بالضرب المبرح كما وصفت الكاتبة، وهو مشهد متكرر في كثير من البيئات. وفي (لحية وضفيرتان) تظهر الرجولة في أوج تناقضها فعلى الرغم من إظهار ذي اللحية اللطافة بملابسه البيضاء وابتسامته أعقبه انفجار مزق من في الحديقة من نساء وأطفال.

تصور القاصة بلطف نسبية الألم في (حالة حرجة) حيث تتضاءل المعاناة متى وقف المرء على معاناة غيره، وأما (إرهابي) فهي، وإن حاولت الإشارة إلى ما استقر في الأذهان من أمر الإرهابيين وتغلغلهم وتخفيهم، ذات بنية مستفادة من ثقافة المؤلفة التراثية؛ فالذي يحدث ضوضاء في المخزن العلوي ويظن أنه إرهابي ولكن يتبين أنه قطّ لاجئ هي قصة أبي حية النميري مع الكلب الذي تسلل إلى بيته، ولكن شتان بين الأصل والفرع فقصة ابي حية جمعت الطرافة وجمال سبك لغوي لجملة من التهديد والوعيد من بعيد من غير مغامرة كمغامرة بطل قصة الإرهابي وهي مغامرة لا يهم بها عاقل فالإرهابي المختبئ مسلح في الغالب ومستفزّ فمهاجمته تحتاج إلى فريق متخصص أما طريقة التنوير المبينة للمفارقة فغير مقنعة فالقط في الظلام لن يهاجم القادم بل سيختبئ أو ينتهز الفرصة للفرار، وتصور القاصة في (دعابة) خطأ تكرر كثيرًا حين يستعمل السلاح من لا يحسنه، ومن السخرية المرة أن تكون الدعابة مسوغا للكوارث، وتصور «ترانزيت» محاولات بعض المبشرين بالمسيحية التي قد لا تلقى من المسلمين استجابة، والحق أن سطوة المال قد تفعل فعلها في بيئات فقيرة. وتسخر القاصة من سلوك بعض الشباب الذي يخل برجولته فتصف في (كي تكتمل) شابًا خليعًا «يتماهى صوته كثيرًا مع أصواتهن، وتمتط شفتاه وترمش عيناه بدلال...» وهي سخرية تختم في نهاية القصة بموقف طريف «لم أتمالك نفسي.. تقدمت ُ خطوات إليه.. أبديت إعجابي به وأهديتهُ نقابًا...».

مجموعة قصصية آسرة مدهشة بلغتها تستحق القراءة والدرس والتأمل على الرغم من كونها مشوبة ببعض الهفوات اللغوية التي كان يمكن تداركها لو حرصت الكاتبة على ذلك، ومع ذلك فإني وجدت جليلة جليلة.

- الرياض