Saturday 12/04/2014 Issue 434 السبت 12 ,جمادى الثانية 1435 العدد
12/04/2014

سيرة رجل مثقف.. سيرة ثقافة رجل

مهما تنوّعت قراءاتنا وكتاباتنا في مجالات الثقافة وأجناس الأدب، تظل السير الذاتية بمثابة (الوثائق) المؤثرة في أصحابها أولاً، أثناء كتابتها، ثم في قرّائها أثناء قراءتها.. وسنظل كقراء وكتّاب نستحضرها دائماً ونحن نفكّر بيننا وبين أنفسنا متسائلين: هل كنا أكثر حظاً من غيرنا؟ أم أكثر بؤساً؟ أم أن غيرنا كان هو الأكثر في كل شيء..؟

كل من كان ليس أنت فهو غيرك، لأن المقصود هنا ليس المغايرة بمفهومها الفلسفي، بل بالمفهوم النفسي الذاتي الذي يميز كل نفس وذات عن غيرها من الأنفس والذوات مهما تشابهت الأحوال والقسمات. والدكتور عبدالمحسن القحطاني قد يتشابه كثيراً، في وضعه الحالي، مع غيره من الرجال المثقفين (أو المترسّمين بعباءات الثقافة).. أساتذة الجامعات أو رؤساء الأندية الأدبية السابقين أو أصحاب الصالونات الثقافية أو حتى الأصدقاء؛ غير أن سيرته الذاتية (بين منزلتين) تحدد له بصمة تختلف ربما حتى عليه نفسه حين يقارن بينها وبين ما يراه من بصمات تحدد ملامح وجهه على المرآة.

ولم أكن أتسلّى أبداً حين طالبته بمقالة كان عنوانها: (د. عبدالمحسن: اكتب سيرتك) منشورة في الجزيرة الثقافية بتاريخ 15 مارس 2012 بعد مشاهدتي له في برنامج تلفزيوني يحكي عن حنينه إلى أمه التي رحلت وتركته طفلاً يخط حياته بقلم اليتم؛ وقد أبكاني وقتها لأن (كلَّ يتيم لليتيم قريبُ) بمعنى مقاربة الجمرة بالجمرة مهما اختلفت المواقد في تحصيل الرماد..

بين يديّ الآن الجزء الأول من سيرة عبدالمحسن بن فراج القحطاني، التي أبدع في عنونتها (بين منزلتين) وأخفى المقصود بالعنوان حتى يصل بالقارئ إلى مقربة من المنتصف السرديّ الثريّ بالمواقع والوقائع والشخصيات والأحداث، في صفحات الكتاب، فيقول:

(الحوار -فيما يعتقد بآخرة من حياته- أوجده يتمه، وفقدان أمه صغيراً، فكان على أسرته أن تعوضه بالاستماع إليه، وامتصاص مشاكله النفسية، وقد نجح والده في ذلك؛ إذ كان يمثل دور الأب والأم في آن واحد، وهو دور لا يملك مقوماته وأغواره، ولذا جلس بين المنزلتين، وهو ما ورثه فيما بعد عن أبيه، إذ بدأ شعوره بانتمائه إلى المنزلة بين المنزلتين، حين كان أبوه يمارس دوراً لا يستطيع أن يعيش في لبه، أو سويدائه، أو عمقه، فلا هو بالقادر على القيام بدور الأب الخالص فحسب، تحسسا لليتيم، ولا هو بالقادر على ممارسة دور الأم ليعوضه عنها، أو عن شيء مما كان يمكنه الحصول عليه منها؛ فكان في هذه المنزلة التي ورثها الفتى عنه، واعترف بها، وظلمه جيله حين وقف في ردهاتها، ولكنها منزلة رآها -فيما بعد- خير المنازل)..

هكذا أوضح الدكتور عبدالمحسن المعنى الذي أراده مبتعداً بنا عن المعنى الذي قد يأخذنا إليه العنوان من حقبة (المعتزلة) وتعبيراتهم التي كانت ذروة البلاغة حتى وقتنا الراهن، المهترئ بلاغياً، مع اختلاف المعاني طبعاً.. وتكررت إيضاحات الرجل في متن كتاب سيرته عن أوجه متعددة لعبارة ما بين المنزلتين، غير أن القارئ سيضيف إليها إيضاحات سيراها كما رأيت، فهي سيرة استطاعت أن تكون بين منزلتين: منزلة رجل استطاع أن يكون مثقفاً، ومنزلة ثقافة استطاعت أن تكوّن رجلاً. والرجولة التي أقصدها ليست بمعنى (الشخص) بل بمعنى (الفرد) والفرق بين المعنيين، برأيي، أن الأول قد يحتوي مجموعاً بينما الثاني لا بد له من جمع يحتويه، فإن افتقد لشيء من ذلك الجمع سيظل غريباً أو متفرداً بمعنى أو آخر، كما هو حال اليتيم.. ومن أجل ذلك كتبتُ سابقاً (قصيدة الأفراد) ولن أكتب (قصيدة الأشخاص) أبداً..!

لماذا أذكر إحدى قصائدي القديمة - منشورة قبل خمسة عشر عاماً - وأنا أتكلم عن سيرة ذاتية - قيد الطباعة والنشر - لغيري؟ هل أسوّق لديوان نافد مثلاً؟! الواقع أن مثل هذه الاحتمالات أفقدت الثقافة معانيها الحقيقية، بخاصة أن نموذج (الفرد) قد ظل ملازماً للرجل الذي أتكلم عنه، وقد عرفته كما يعرفه الناسُ (شخصاً) تستوجب عليه كل مراسيم الشخصيات الاعتبارية، بينما القصيدة مطلعها:

(أمّي تحبُّ الماءَ في عيني غزيراً

وأبي يحبُّ أصابعي منزوعة الأظفارْ

قال مسكونٌ بذات الهمّ: تعرفني؟

فقلتُ: أقولُ إنّ الأرضَ تجمعنا

ويدفعنا الطريقُ إلى سلالات القطارْ..)

لذا لم أجد بدّاً من إسقاطها صدقاً على ما شعرتُ به أثناء قراءة سيرة هذا الرجل، وهو يختبر طفولته التي عاشها يتيمَ الأم، ممتلئاً اعتزازاً بأبيه (مؤذن مسجد الحي) الذي رباه على مثالية لا تنفكّ تذكّره بأنه رجل وأن عليه أن يكون حريصاً على توسيع خطواته حتى يختصر المسافة التي تفصل بين طفولته والرجولة، والنأي كل النأي عن كل ما يجعله كبقية الأطفال المندمجين مع أحضان النساء. وهكذا لم يكن الطفلُ يبكي كثيراً (أو لم يكن الماء في عينه غزيراً) ولم يكن يشاغب مشاغبات غيره من الأطفال (أي كان وكأنه منزوع الأظفار) ويسير في طريق مستقيم كأنه يركب قطاراً يتوجه إلى هدفه عابراً محطات كثيرة..

ومحطات عبدالمحسن القحطاني في طفولته كثيرة جداً، ومتنوعة، يقول: (ليس للنخيل وجود في حيهم؛ فهو حيٌّ متحركٌ لا يعرف الثبات أو الاستقرار، والنخلة تحتاج إلى مَنْ يرعاها..) ويقول: (حالهم شبيه بيوم القيامة، كلٌّ يسعى فيه لنفسه، فاختفى الإيثار، وانزوى معه الوفاء) ويقول: (وقد علّمه اليتمُ أن يعتمد على نفسه في كل أموره، وأشدُّ اليتم ما كان وفاة الأم).. وقد صدق وربّ الكعبة.

وبمرور سريع على النصف الأول من الجزء الأول لهذه السيرة الذاتية الثقافية الثرية، نجد مفارقات بين ازدواجيات متعددة: ازدواجية العيش، فمعيشة البدويّ غير معاش القرويّ. وازدواجية التعليم، فما عند (المطوّع) غير ما عند (المدرسة). وازدواجية الأمن والأمان، فالشرطة تثير الخوف والمحكمة تعمم الاطمئنان.. وغيرها كثير استطاع اليتيمُ الطفلُ مسايرتها بل والتفوق في أخذ من كل ناحية ما يكمل به الأخرى.. والذكريات كثيرة جداً في هذه السيرة التي تسترجع طفولة رجل على مشارف السبعين الآن، ولم ينس لحظة من لحظاته تلك المكونة لكيانه الغادي رفيعاً.. فهو يذكر باعتزاز مبهج تلك الأعمال التي مارسها في حيه المزدوج بين منزلتين، فكان لا بد له أن يبدأ حياته بكل أشكال البدايات التي تليق بمشروع رجل: يبيع الحلوى، يبيع البرسيم، يكتب المعاريض لطالبي الحاجات عند الجهات الرسمية - حين بدأ في إتقان الكتابة؛ وكانت بدايته مع إتقان الكتابة بداية لنضج أدبي وأخلاقي أيضاً، إذ كان يفعلها من دون أجر.. أما الحكايات فهي أكثر من الذكريات ربما، فحكاية المختل عقلياً وكيف كان يمثل نموذجاً تستطيع من خلاله معرفة الجريء من الجبان أو الصادق من المنافق، وحكاية معالج المسحورين وكيف أن الطفل اتخذ موقفاً رافضاً لمسرحية الدجل من دون أن يكتشف دليلاً ضدها سوى حدسه المتوهج، وحكاية بائعة القرصان التي كان يحسبها بارعة لأنه لم يكن قد رأى من ينافسها، وحكاية مجبّر الكسور..

لن أستطرد أكثر، ولكن سأقول: كما أبكانا طه حسين في سيرته الذاتية (الأيام)، بخاصة في موقف الأكل الذي كان يسيل عليه مضحكاً من حوله وهو لا يدري لماذا يضحكون لأنه لا يستطيع أن يرى.. أبكاني عبدالمحسن القحطاني مرتين، في النصف الأول من الجزء الأول لسيرته الذاتية (بين منزلتين) فمرة حين رمى النسيبُ صحنَ نسيبه الجائع فارغاً في الهواء، ومرة حين ارتدى الطفلُ (بشتَ) عمه ليغطي الشقوق التي تبدو على ثوبه، فأثار سخرية أقرانه في المدرسة ظانين بأنه مغرور ولم يخطر ببالهم أنه مضطرٌ معوز.. على كل حال، فما قلته هنا هو بعض انطباعاتي حول هذا الكتاب الذي أقرأه الآن باهتمام كبير، وفي الأسبوع المقبل -بإذن الله- سأكمل قراءته وأكمل انطباعاتي.

- الرياض ffnff69@hotmail.com