Saturday 13/09/2014 Issue 445 السبت 18 ,ذو القعدة 1435 العدد

رحلة مع الفلاسفة (1)

استفتاح وتمهيد

انتهيتُ قبل الإجازة من نشر سلسلة عنوانها: «رحلة مع الفلسفة» جاءت في سبعة مقالات نُشرت هنا في هذه الصحيفة، أولها يحمل عنوانه تساؤلًا أسعدني تفاعل الكثيرين في بلادنا معه، وهو: لماذا حرمنا من دراسة الفلسفة؟. وآخر مقالات تلك السلسلة السابقة كان عن خصائص التفكير الفلسفي.. وتناولنا بينهما -أي بين المقالين- نقاطًا كثيرة، منها بدايات ظهور الفلسفة، وتعريفات ودلائل هذا المصطلح.. ومنها أهم مواضيع الفلسفة ومجالاتها أو ميادينها الرئيسية.. ومنها أوائل المتفلسفين في تاريخ البشرية.. ومنها العقبات التي تعيق البعض أثناء سيرهم نحو الفلسفة...الخ.

وأعود اليوم مفعمًا بالحيوية، بعد أن شجعني التفاعل الجميل مع سلسلتي المتواضعة السابقة، فدفعني إلى كتابة سلسلة أخرى، عنوانها هو ما ترونه أمامكم في أعلى هذه المقالة التمهيدية الاستفتاحية.

سأطيل الحديث في كثير من المقالات القادمة -إن شاء الله- وسأشق بسفينتي المتواضعة بحر الفلاسفة وأمواجه المتلاطمة، وسآخذ معي في هذه الرحلة من يرغب من القرّاء الكرام عامة، وخاصة الفئة المستهدفة بهذه السلسلة، وهم الذين لا يعرفون الكثير عن «الفلسفة» بسبب حرمانهم من دراستها في المدارس السعودية، كما وضحت في مقالات السلسلة الأولى.. ولا بد قبل البدء من الإشارة إلى ثلاث نقاط هامة هي:

1- كما ذكرتُ في المقال الأول من الرحلة السابقة: ينبغي -في وجهة نظري- أن يُنظر إلى مواقف وكتب ووجهات نظر واجتهادات وآراء مشاهير الفلاسفة والمفكرين باعتبارها نماذج تطبيقية للتفكير الفلسفي، يستأنسُ بها محبُّ الفلسفة، ويسترشد بأساليبها المختلفة، وهو يسير في طريقه إلى الغاية الأهم، وهي تكوين فلسفته الخاصة به، وفق الأسس والمبادئ التي لا بد من إتقانها واستيعابها جيدًا، مهما حفظ الإنسان من الأقوال والآراء الفلسفية.

فالحقائق القطعية المطلقة ليست ملك أحد، بل لم يصل إليها أحد في اعتقادي، وباب الاجتهادات الفكرية كان ومازال وسيبقى مفتوحًا أمام كل قادر؛ ولذلك ينبغي على محب الفلسفة ودارسها أن يحاول دائما إيجاد مواقف فكرية خاصة به، وأن يبتعد عن الانقيادية والببغائية العقيمة، المتمثلة في تكرار ما قاله غيره من الناس، مهما بلغوا من المنزلة في الفلسفة أو في غيرها.

2- اهتمامي بنشر هذه المقالات نابع من قناعتي الأكيدة بوجود حاجة شديدة لسد فراغ كبير، يجب أن يساهم كل المهتمين السعوديين بالفلسفة في سدّه؛ لأننا إذا أتقنا سدَّ هذا الفراغ، ونجحنا في نشر حب الفلسفة والتفلسف والفلاسفة والتفكير المنطقي في المجتمع، سننجح بالتأكيد في سدِّ كل أبواب الشرور الناتجة عن تغييب العقل الإنساني وحرمانه من التفكير الحر.

ومن تلك الشرور التبعيّة الغبيّة، والتقليد الأعمى الناتج عن تقديس التلقين الأجوف، الذي ساهم في ازدهار الإرهاب وانتعاش الفكر الإرهابي، الذي لا تنمو أشجاره غالبًا إلا في تربة المجتمعات الرجعية المبالغة في الوصاية على العقول وتكبيلها بأغلال المتزمتين والمتطرفين، وقهرها وإقصائها إذا كانت تفكر بتميّز خارج النسق الفكري العام؛ أي خارج سرب الأدلجة القبيحة، التي تقتل وتشوّه وتطمس وتعيق كثيرًا من قدرات الأفراد ومواهبهم العقلية وحرياتهم الفكرية، وحقوقهم المشروعة في تكوين القناعات الخاصة المستقلة والتعبير عنها.

ودعوني أستطرد هنا وسأطيل في الاستطراد قليلاً لأهميته البالغة في رأيي.. أقول: إن حرمان أبناء مجتمعنا السعودي من دراسة وممارسة وتعلّم الفلسفة والمنطق وغيرهما من العلوم والفنون الكثيرة الأخرى، الموسيقية، والسينمائية، والترفيهية المختلفة.. إن هذا الحرمان الثقافي الكبير هو السبب الأول في نظري لهذه الظاهرة العجيبة المقلقة، التي تكبر كرة ثلجها يومًا بعد يوم في مجتمعنا – أعني ظاهرة توجه الآلاف من أبناء الوطن لحرق وتمزيق أجسادهم بأطنان مهولة من المتفجرات، بغية إزهاق أرواح الأبرياء والمدنيين في مواطن الفتن والصراعات!!.

أنا حزين جدًا والله على هؤلاء الشباب وعلى ضحاياهم، وأعترف أني أصبحت أذرف دموعي كثيرًا في الفترة الأخيرة، وليس عيبًا أن أذرفها بعد أن خصصت جزءا كبيرا من وقتي لدراسة وتأمل ظاهرة الإرهاب، فقادني هذا الاهتمام به إلى مشاهدة عدد كبير من مقاطع قتل الإنسان للإنسان!.

والطامة الكبرى، هي أنهم جميعًا عربٌ ومسلمون، وأن نسبة عالية منهم من أبناء الخليج عامة، والسعودية تحديدًا، وهذا ما يهمني هنا، فكم هو مؤلم أن شبابنا يرددون «الله أكبر» وهم يقتلون الآخر الذي يردد أيضًا «الله أكبر ولا إله إلا الله».

إن الجفاف والغلو والتنطع الديني الكبير الذي يعيشه السعوديون أفرز مثل هذا الفكر، بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت على أصحاب الفكر الآخر.. الفكر المستنير الداعي للتفكير الحر والفلسفة والمنطق والفنون والترفيه والسعادة والمحبة والحضارة والرقي والت عايش والسلام والإنسانية والحياة الطبيعية.

لا يمر وقت طويل في وطننا دون ظهور دعوات أو حملات تدعو لقتل مظاهر الحياة الطبيعية، ولإيقاف الفعاليات الترفيهية الضرورية، بحجج دينية متشددة واهية؛ ولذلك صدّرنا الموت للعالم كله، وساهمنا بقوة في دمار البشرية.

قسمًا لو عشنا الجمال كما ينبغي أن يُعاش، وأخذتْ العلوم المحظورة والفنونُ والمجالات المحاربة -المشوهة عمدًا- كالفلسفة والمسرح والموسيقى والسينما وغيرها من شبيهاتها مكانها الطبيعي بيننا وفي مدارسنا كبقية المجتمعات، وسُمح للناس بالتعبير الحر خارج بواتق الغلاة، وغُيّرت المناهج الدراسية المليئة بالأخطاء والأفكار المتطرفة.. والله لو حدث ذلك بشكل جاد منذ وقت مبكر، لما خرج من بلادنا آلاف الجزارين والنحارين ومفخخي العقول والمؤخرات.

الدولة تجتهد في محاربة هذه الفئة الضالة، وتسعدنا دائما قراراتها التي تصدر في هذا الشأن، كالتوجيهات الرسمية التي صدرت مؤخرًا لخطباء المساجد بالدعاء على (داعش) فلا شك أن هذا يضعف التعاطف معهم؛ لأن لخطباء المساجد مكانة رفيعة عند العامة.

ولكن الدولة رغم هذا مقصّرة في نظري، ونأملُ في خطوات أكثر جدية لمواجهة هذا الفكر المنحرف على كافة الأصعدة، وعلى رأسها الصعيد التعليمي، والاستعجال في إقرار «الفلسفة» كمادة أساسية تدرّس في جامعاتنا ومدارسنا، هو أهم خطوة يجب أن يبدأ بها صانع القرار.

إن أفضل طريقة لمواجهة الإرهاب، هي أن تعطي الدولة المثقفين والمفكرين المستنيرين وعشاق الفلسفة والفلاسفة والعقلانيين والمناطقة ومحبي الحكمة.. أن تعطيهم فرصًا كاملة ومنابر مماثلة لفرص ومنابر الوعاظ، للحديث للناس بلا قيود، في المدارس والجامعات وغيرها من أماكن المناشط المختلفة العامة والخاصة.

الوضع خطير جدًا، وأخبار كثيرة تحذر من تنامي الفكر الإرهابي في السعودية والخليج؛ ولذلك فالحكومات الخليجية كلها مطالبة بوضع الخطط الاستباقية لمواجهة فكر الإرهاب عامة، فداعش قد تزول قريبًا، ولكن الفكر المتطرف -الذي أنتجها وأنتج أخواتها- يحتاج إلى كثير من الجهود للقضاء عليه.. ولن نقضي عليه أبدًا إلا بتجفيف منابعه، ومنابعه في جامعاتنا ومدارسنا ومناهجنا كثيرة للأسف؛ ولن نستطيع القضاء عليها بشكل كامل صحيح، إلا بوضع البدائل الانفتاحية النهضوية التقدمية التي تنير ألباب الشباب والناشئة، وعلى رأس ذلك كله تدريس المنطق والفلسفة.

المهم:

سيكون الطرح في هذه السلسلة سهلا سلسًا مناسبًا للمبتدئين المستهدفين بها، ولن أتعمق كثيرًا.. وأوصي من يريد مواصلة هذه الرحلة معنا، أن يعود إلى السلسلة السابقة خلال هذا الأسبوع، ليؤسس نفسه فلسفيًا بشكل سريع، لن يأخذ من وقته أكثر من سويعات معدودة، ليتمكن من الانخراط معنا وهو يقف على أرضية جيدة، تساعده على الاستمتاع والاستيعاب الصحيح للسلسة الحالية، وما سيتلوها من سلاسل ومقالات فلسفية أخرى قادمة إن شاء الله.

إن بحر الفلاسفة الذي تجرأتُ على مخر عُبابه بحر جميل ممتع من جهة؛ ولكنه خطر مهول عظيم الشأن من جهات.. وفيه جزر كثيرة، مختلفة المساحات والمحتويات.. وسنبدأ بجزيرة أفلاطون في المقالة القادمة، التي سنتحدث فيها باقتضاب عنه، وعن كتابه الجمهورية، وعن إيمانه بخالق الكون ربنا العظيم.. ثم ننتقل إلى بقية الفلاسفة.

آمل أن أوفّق إلى تقديم نُبَذ مختصرة نافعة ماتعة، عن هؤلاء الرواد الكبار في تاريخ الفلسفة، وعن كتبهم العظيمة التي كانت وما زالت وأظنها ستبقى مؤثرة في البشرية إلى أبد الآبدين.

وائل القاسم - الرياض