Saturday 13/09/2014 Issue 445 السبت 18 ,ذو القعدة 1435 العدد

نقد مقولات الخطاب الديني-السياسي

1 - مقولة الحاكميّة لله

(أ)

الأصل في نقد مقولات الخطاب الديني-السياسي أن يكون مستنداً إلى المصادر نفسها التي تبرّرها وتجتزئ منها؛ وألا يكتفى بهذا الجانب التربوي/التعليمي، فهو على قيمته إلاّ أنّ أهميّته لا تُنتج إذا لم يتزامن معه جانب تشريعيّ تنفيذيّ يُفضي بالناس، ويحسم أمر حيرتهم بين (الانتماء للدولة) أو (الانتماء إلى خطاب دينيّ يستغلّ عقيدتهم وإيمانهم الصادق). ومن هنا فإنّ دور السلطة لا يتوقّف عند سنّ التشريعات التي تجرّم التكفير والتحريض والفئوية، بل والإصرار على تنفيذ التشريعات المحصّنة لقوّة الدولة وأنّها المرجع الانتمائي والتشريعي والتنفيذي، وذلك يتم بإلغاء أيّ مواد قانونيّة تمنح الإقصائيّين بطريقة أو أخرى ذريعة التصفية الجسدية على سبيل الاختلاف العقدي أو تبيح قتل المختلف.

(ب)

ينتمي الخطاب الديني ومقولاته ومنقولاته إلى مدوّنات انتقائيّة مختلقة تفسيريّة وتأويليّة قديمة، وهو بذلك ينتمي إلى ما قبل العصر، وهذا انتماءٌ مجازيٌّ، فأنتَ إذا تركتَ الواقع وقعت في الفراغ، وأيّاً كان مسمّاه يبقى افتراضاً، فالماضي ليس موجوداً الآن كي تنتمي إليه، وهو ما يُعاب على الخطاب الديني ويستحيل معالجة عثراته لكونه (لاينتمي)؛ قد تبدو حالة اللا-انتماء موقفا من الحاضر، لكنّها ليست موقفاً بقدرما هي تيهٌ وتضليلٌ: تيهٌ للتابعين غير العارفين، وتضليلٌ من المتبوعين المفتونين بأنفسهم والمدركين لفساد خطابهم، لكنّهم يستغلّون التابعين بما قد يرتدّ عليهم: منفعة، نفوذ، مال وشهوات.وهكذا تيهٌ لا يمكن إصلاحه أو تجديده، فما يمكن فعله هو إعادته إلى الحاضرعبر (التخلّي عن الخطاب): ما الذي يتبقّى من الخطاب الديني إذا عاد هؤلاء إلى الواقع العلمي المادي وتنازلوا عن أهداف الخطاب؟!

(ج)

توجز أهم مقولات الخطاب الديني-السياسي في الشعارات التالية: (الحاكميّة لله، الإسلام دين ودولة، تطبيق الشريعة الإسلاميّة، المرجعيّة السلفيّة، فساد الإنسان وتأثيمه، الفرقة الناجيّة)، وهي المقولات التي تستدعي حسماً إصلاحيّاً على مستوى التشريع السياسي، وهو المعوّل عليه في إحداث تغييرات دراماتيكي في هذه الأنظمة والمجتمعات المتأثّرة برجال الدين تأثّراً نفسيّاً، وحياتيّاً: هل ترك رجال الدين شأناً حياتيّاً واحداً في حياة الناس لم يتدخّلوا فيه: بدءاً من اسم الوليد حتى مراسم عزاء الفقيد، وقسْ على ذلك كلّ شيء بينهما.

1-المقولة الكبرى: (الحاكميّة لله)

ليس جديداً تفكيك استغلال المقولة في الخطاب الديني-السياسي، ولعلّنا إذا أردنا أن نضيف–هاهنا- فإنّنا نربط بين نقد المقولة وحتميّة الفصل بين الدين والسياسة كما يمكن التأكيد عليه من قراءة الوقائع السياسيّة عند الرعيل الأوّل: (حروب الردّة، الفتنة الكبرى، واقعة الخوارج والخروج على الإمام علي)؛ فأنت تبتعد عن جوهر النقد إذا لم تربط نقد المقولة بالغاية العموميّة لتمكين خطاب عمومي مدني يفصل بين الدين والسياسة؛ وهو ما يمكن رصده وإثباته حال تفكيك المقولات المحشورة بين القوسين أعلاه، والتي ترتبط جميعة بكونها تجمع بين الدين والسياسة والدولة قبل أيّ شروحات أو تفصيل ونزع الإنسان وحريّته نزعاً؛ فمقولة ومنقولة (الحاكميّة لله) تأتي على رأس الخطاب الديني-السياسيّ بطريقة معلنة أو مضمورة، وضمن أيّ خطاب ديني يدّعي اعتداله اجتماعيّاً وابتعاده عن السياسة بطرق غير مباشرة لأنّ وجود الخطاب بحدّ ذاته هو استغلال لقيم الدين في الصراع السياسي.

تتمثّل (الحاكميّة لله) على الأرض -في زعمهم- في شخص (رجل الدين) الذي يدّعي من لدنه تمثيل الدين، ولذلك كان إصرارنا على التأكيد أنّ (الدين لله) مفهومٌ يقوم على رفض وعدم جواز تمثيل الدين من أيّ أحدٍ، وأنّ أساس الفتنة حينما يظنّ المرء بنفسه أنّه ممثّلٌ عن الدين.

فكرة (الحاكميّة لله) المستغلّة سياسيّاً، قائمة على رفض الحاكم/ولي الأمر/ السلطات الثلاثة/ وهي دعوة أقرب إلى الدعوة إلى الفوضى، وأنت لا تستطيع أن تفهمها جيّداً إذا لم تضعها في هذا الإطار: (الفوضى التّامة) وليس جدليّة الفوضى والنظام وتعاقبهما على أنّ التوافق والتبادل والتلاحم والتعارض بينهما سنّة من سنن الحياة، بل الفوضى التامّة المفردة، بحيث غياب السلطة وتدميرها تماماً: (ثمّ إحلال النظام المجرّد) من أصحاب الدعوة التدميريّة. (وهي دعوة تردّ عليهم: فمن حجّتهم أدينهم/ إذا كانت دعوة الحاكمية لله ّمقيّدة بتفويض للإنسان بخلافة الأرض فإنّ الدولة محل هذا التفويض، لأنّ الدولة كلّ وليست استثناء فهي: (النظام، السلطة، الناس بكل مكوناتهم، الإقليم، والاعتراف بها) وهو ما يعارض دعوة الخطاب الديني الانفصاليّة، أمّا إذا كانت فكرة الحاكمية لله مطلقة في الدنيا وليس لها تكليف وليس لها تفويض: فعلى ماذا تستندون في دعوتكم لتمثيل الدعوة والمطالبة بشرعيّة سياسيّة هي بحدّ ذاتها ضدّ دعوتكم في الحاكمية).

ليست الحاكميّة فكرة وحجّة استغلاليّة حديثة أخرجها سيّد قطب من هلوساته، بل أخرجها من صناديق التراث ودهاليزه وجحوره ودمائه، إنما هي من أحلك وأخطر مراحل التراث المؤثّرة في تاريخنا برغبتنا وإرادتنا، والتي لم نتبرّأ من قراءاتها على أحداث حدثت تحت تأثيرات أطراف أرادت أن تجمع استغلالاً وتخلط بين الدين والسياسة، ولم نفصل في قراءاتنا لتلك الأحداث بعين فاصلة بين الدين والدولة، هكذا نفهم أكثر دعوة الخارجين عن الخليفة أبي بكر: حيث ردّدوا بطريقة أو أخرى مضمون (الحاكميّة لله)، فهم لم يرفضوا جزءاً من الدين- بل رفضوا الدولة، رفضوا مركزيّة الخليفة، هكذا يكون التورّط في الخلط بين الدين والدولة... ومنطقهم استغلال الدين لأجل انشقاق سياسي: (لطالما في زعمهم لم يرد في المتن ما يبيح دفع الزكاة للخليفة، ولم يرد في المتن سلطة للخليفة عليهم) هذا أساس الصراع بين استغلال الدين للانشقاق السياسي؛ والذي حدث أنّ الخليفة انتصر لمركزيّة الدولة، انتصر لضرورة الفصل بين الدين والدولة، انتصر لمبدأ عدم استغلال الدين في الصراعات السياسيّة.

(د)

تلقّى مقال (ميثاق: الدين لله) المنشور في الثقافيّة/434 بتاريخ 12/4/2014) إلى مجموعة تأييدٍات وانتقاداتٍ: منها زبدٌ، وأخرى محلّ استفسارٍ أو استنكارٍ لمَ يخالف أصحاب تلك الانتقادات وما تآلفوه وحُفر في وجدانهم على أنّه الصواب وسيق إليهم على أنّه الحقيقة الدينيّة المطلقة؛ وهو محض افتراض غرور؛ فكان واضحاً أنّهم في سبيل معارضة مفهوم (الدين لله) لأنّه يسحب السلطة التي يختلقونها لأنفسهم ولأدعيائهم؛ فكان الاتّكاء على نقد (الوطن للجميع)، والادّعاء بفداحة هذا القول أو فداحة تطبيقه أو قيامه واقعاً، والأصل على المقتضى في السياق: (أنّ الوطن لله أيضاً)، وهي كلمة حقٍّ يُراد بها باطل، فما اختلفت حجّتهم عن الحجّة التي اختلقها الخارجون عن الإمام علي: (الحكم لله وليس لك يا علي)؛ ولكن ماذا بعد الإقرار أنّ الوطن لله والحكم لله؟ لمن تكون الملكيّة في الأرض؟ لمن يكون الحكم/الحاكميّة؟ لقد بدأ الانشقاق عن الدولة عندما ظهر من يريد أن يمثّل الدين بنفسه بعيداً عن الدولة فرفض دفع الزكاة إلى الدولة ولم يرفض الزكاة كركن ديني: (هل لاحظتم الانشقاق والردّة عن الدولة كيف تكون وتحت أيّ منطلقات؟ إنها منطلقات دينيّة يتذرّع بها المنشقّ تحت حجج دينيّة واعتراضيّة على من يمثّل الدين!)

الحقُّ أنّ الإيمانَ يأخذُكَ على الاقتضاء للإيمان بأنّ كلّ شيءٍ لله، وعلى الرغم من ذلك: فأنتَ لا تُفصح عن الإيمان والإقرار في معرض حديثك أو فعلك عن الملكيّات: (سيّارة مَنْ هذه؟ أرضٌ مَنْ؟ منزلُ من؟ شركة مَنْ؟) وهكذا دواليك في جميع الملكيّات، وإذا ما ذهبنا منحى القائلين برفض عبارة (الوطن للجميع) والاكتفاء فقط بأنّ (الوطن لله) فإنّ في ذلك إباحة لحرمات الله في الأرض، لانتهاك أصل في الخلافة والملكيّة والتمكين وهي من سنن الله في خلقه... (الدين لله فقط، الوطن لله والجميع)

الأصل في العبارة عندي، والتي صيغت على مبدأ الاقتضاء: أن الدين لله (فقط): وليس ملكيّة لأحد، بل مشاع والناس فيه سواسية لا تمثيل لا وكالة، (آتيه فردا). وكذلك الوطن لله (إيماناً) لكن التكليف محلّه الوطن، والتكليف وقع من مالك الأرض إلى الإنسان، فهو الذي وكّل الإنسان وكلّفه الأرض عمارتها وبناؤها.

(الحكم لله وليس لك يا عليّ)، قول حقّ يُراد به باطل، حقّ في شكله، باطلٌ في مضمونه ومقتضاه ومراميه... فكلّ من يرفض أن يكون الوطن للجميع فإنما يريد أن ينشق عن الوطن والدولة، تحت ادّعاءات الحاكميّة لله، وحصر تمثيل الدين في شخصه دون الدولة ومكوّناتها الضامنة الواقعيّة للحاكميّة.

ياسر حجازي - جدة