Saturday 13/09/2014 Issue 445 السبت 18 ,ذو القعدة 1435 العدد

غاندي .. الذي لا أعرف

غاندي.. الهندي.. تعلّم قيم النضال في جنوب أفريقيا. هذه كانت أول معلومة صدمتني في سيرته الذاتية «في سبيل الحق». والغريب أن سلوكه طريق النضال لم يكن بدافع قيمي مجتمعي عام على الأقل في البدء، ولكن يبدو بسبب ضغوط شخصية عليه وممارسات عنصرية واجهها غاندي من البيض الذين كانوا يحكمون جنوب أفريقيا والذين خلقوا لاحقاً نظام الفصل العنصري «الأبارتايد».

الهنود كانوا طبقةً محتقرة أيضاً في جنوب أفريقيا.. ولكن الغريب أن غاندي (المناضل) لم يكن مهجوساً بالشراكة مع السود في هذا النضال، ولم يكن معنياً إلا بتلك الأقلية الهندية المحرومة في جنوب أفريقيا، ولم يكن هذا عيباً في تجربته وسيرته.. لولا ما انطوت عليه هذه التجربة من تبرير غير مباشر لنوع معين من العنصرية لأجل مكافحة نوعٍ آخر منها.. واحتاجت جنوب أفريقيا عقوداً طويلة لكي يناضل الهنود فيها جنباً إلى جنب مع السكان الأصليين لجنوب أفريقيا كما فعل الهندي/جنوب أفريقي أحمد كاثرادا.. مع رفيق دربه «نيلسون مانديلا».. وعاشا سنيناً طويلة في «روبن آيلاند».

أساس المشكلة في جنوب أفريقيا لم تكن أن «الهنود» تلك الأقلية التي جلبها الاستعمار كيد عاملة في قطاع قصب السكّر.. تتم معاملتها باحتقار وبخس فحسب.. بل كانت أوسع وأشمل من ذلك: كانت في «فوقية الرجل الأبيض» وفي استعماره وفي عنصريته.. إلخ، لأجل كل ذلك فإن النضال الحقيقي لن يكون إلا بمكافحة أساس هذه المشكلة والتعامل معها بهذا الاعتبار وليس محاولة التعامل مع بعض ظواهرها التي تخصنا. لكن الذي حصل في جنوب أفريقيا.. أن غاندي ورفقاءه حملوا مهمة جسيمة للدفاع عن الهنود على حساب السكان الأصليين من الأفارقة السود!. كانت قضية غاندي وقتها هو في مطالبة الحكومة بجعل الهنود جزءاً من هذا النظام العنصري والسماح لهم بالتصويت.. والسماح لهم بالحقوق وبعض الحريات والصحافة. حسناً..كل ذلك قد يبدو مفهوماً وفق سياق أن جماعات النضال المدني يحق لها التخصص والانتماء.. إلخ وأنها تتعامل وفق الظروف المتاحة والشروط الطبيعية لواقعها، لكن الذي لا يمكن فهمه ولا تبريره هو أن جزءاً كبيراً من الخطاب يضمر رسالة مباشرة أو غير مباشرة مفادها أننا كـ «هنود» لسنا مثل هؤلاء الأفارقة السود! فهو خطاب يناضل ضد عنصرية البيض تجاه السود.. ليثبت أن السود وحدهم من يستحق العنصرية - بهذا الفهم.

ورغم كل النضال لأجل الحقوق والمطالب في نظام الفصل العنصري.. كانت فكرة غاندي هو تقديم نموذج مدني ومتطور من الهنود لكي يتم اعتراف الرجل الأبيض بهم وتقديرهم وإعطائهم حقوقهم.

والقصة الصادمة لي في سيرته الذاتية التي كتب حروفها بنفسه.. هي أنه حينما خاض الاستعمار البريطاني أحد حروبه الاستعمارية قرابة سنة 1900م طلب الاستعمار البريطاني متطوعين من جنوب أفريقيا المحكومة بريطانياً.. فتقدم غاندي ومعه رجاله «المناضلون» الهنود لأجل (القتال) التطوعي مع الجيش البريطاني.. وكانت حجة غاندي في ذلك الوقت هو محاولة تقديم صورة جيدة عن الهنود لدى البريطانيين ومحو الصورة النمطية السلبية عنهم بأنهم لا يجيدون القتال ولا يريدون التدريب العسكري!.

شيء لا يمكن فهمه.. ولا يكاد يصدّق أن هذه المفارقة الغريبة تسكن عقل غاندي. غاندي الذي يكاد يكون أول من ابتدع آليات النضال ضد الاستعمار (سلمياً).. هو نفسه من يشارك الاستعمار (عسكرياً) في حروب ضد شعوب أخرى وربما لأغراض استعمارية أيضاً.. وحتى تلك المشاركة لم تكن إجبارية ولا قسرية بل هي بمحض الإرادة والتطوع من غاندي ورجاله.. لأجل «تقديم صورة حسنة عن الهنود»!

غاندي حينما عاد إلى الهند.. بدأ يبشّر وينشر مبدئه النضالي المهم حول «المقاومة السلبية/الساتياجاهرا» والتي كانت لنيل بعض الحقوق حيث لم يكن حتى يطمح وقتها لطرد الاستعمار ككل ولا حتى تحدّي فكرة الاستعمار ذاتها.. بل لتحسين شروط المعيشة العامة.. والتي كانت بالفعل سياسة ذكية وناجحة مؤقتاً ولكنها ستؤول للفشل لو استمرت بالنمط نفسه والأهداف.. ولكن مع الوقت تطوّر الهدف الذي أصبح لتحدي الاستعمار ذاته، الشيء الذي جعل الفكرة أكثر انتشاراً وأجدى.

وحينما أعود للمفارقة مجدداً.. في مقارنة تلك «المقاومة السلبية السلمية» التي قدمها غاندي ونجح فيها.. أجد أن ذلك القتال العسكري التطوعي الذي شارك به مع الجيش البريطاني يوم كان في جنوب أفريقيا شيئاً في غاية الغرابة والتناقض إلى جوار تناقضات أخرى متفرقة.. قد يدركها القارئ الآن الذي يقرأها من خلال واقعٍ مختلف.. وظروفٍ مختلفة..

كل تلك اللفتات السابقة كانت الجانب الآخر الذي لا أعرفه ولم أحبه في غاندي.. ولكنها لم ولن تحجب عني معرفة تجربته النضالية المهمة ولا تجعلني أغمطها حقها وقدرها من الدراسة والاستفادة.. حيث غاندي نفسه في الهند طوّر خطابه نحو آفاق أكثر احتواءً.. وأكثر عمومية.. ولولا ذلك لم يكن رحيل الاستعمار البريطاني عن الهند ممكناً.. لكن هذا الشيء الأخير هو الذي أعرفه ويعرفه كل الناس عن غاندي.

عبدالله العودة - الولايات المتحدة