Saturday 13/09/2014 Issue 445 السبت 18 ,ذو القعدة 1435 العدد
13/09/2014

مع (عنترة) .. بين أريجِ (العِشْق) وغُبارِ (المَعْركة)(2)

كانت حروف القسم الأول من هذه السطور تحاول أن تحلق في فضاءات المشهد الأول من النص الخالد لـ(عنترة بن شداد العبسي) الذي كشف فيه عن أروع صور الشجاعة والفروسية، وأجمل مواقف الجرأة والإقدام، غير أن كل ذلك لم يسله عن محبوبته (عبلة) التي كان لا بد أن تكون حاضرة في ذهنه وسط كل هذه الأحداث..

يقول (عنترة):

ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ

مني وبيضُ الهند تقطر من دمي

فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها

لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسِّمِ

لما رأيتُ القـومَ أقبل جمعُهُمْ

يتذامرون كـررتُ غيرَ مُذمَّمِ

يدعون عنترَ والرِّماحُ كأنها

أشطانُ بئرٍ في لَبَانِ الأدهـمِ

ما زلتُ أرميهم بثغرةِ نحرِهِ

وَلَبَانِهِ حتى تسربلَ بالدمِ

فازورَّ من وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِهِ

وشكا إليَّ بعبرةٍ وتحمحمِ

لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى

ولكان لو علم الكلام مُكلِّمي

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيلُ الفوارس: ويكَ عنترُ أقـدمِ

هذا هو المشهد الثاني من مُعلَّقةِ (عنترةَ بنِ شدادٍ العبسي)، بعد أن عشنا في القسم الأول أجواء الذكرى والحنين، وفي فضاءات الفروسية والشجاعة، ورأينا هناك كيف واجه شاعرنا البطل أكثر الفرسان شجاعة وإقداما، وكيف انتهت تلك المواجهة الضارية التي أنهاها (عنترة) بطعنةٍ عاجلةٍ كانت كفيلةً بإنهاء حياة ذلك البطل، كلُّ ذلك يرويه شاعرنا لمحبوبته إظهاراً لفخره وشجاعته، وكشفاً لفروسيته وإقدامه.

وهو في هذا المشهد يستكمل قصة الفروسية وسط هذه المعركة الضارية التي لا يتذكَّر فيها الإنسان سوى نفسه وكيف يبقيها على قيد الحياة وهو يرى هذه الدماء وتلك الأشلاء، ويبصر هذه الرؤوس الطائرة، والعيون الحائرة، لكن (عنترة) البطل لا يلقي لهذه الأمور بالا، فذهنه سارح بأمر أهم، وفكره مشغول بشيء عظيم، إنه يفكر بمحبوبته (عبلة)، وطيفها لا يزال يرتسم في ذهنه، وصورتها تتراقص في عقله، والأشواق إليها قد ملأت قلبه، كل ذلك وهو يرى هذه الرماح تشرب من دمائه، والسيوف تقطر منها، وكأنه يقول: فإذا كنتُ يا (عبلة) أتذكركِ في مثل هذا الموقف العصيب، والمشهد الرهيب، فما ظنكِ بغيره من المواقف؟

ويبلغ التعبير والتفكير منتهى الجمال، وتصل الصورة والفكرة إلى نهاية التألق والإبداع، حين يكشف لنا (عنترة) عمَّا كان يدور في ذهنه ويجول بخاطره في تلك اللحظات، ويعلن لنا أمنيته التي كان يتمنَّاها حينها، لقد كان يتمنَّى أن يقوم بتقبيل هذه السيوف بحرارة وشوق، ولكن لماذا؟ إنه يودُّ أن يفعل بذلك لأنَّ هذه السيوف حين لمعتْ وسط هذه الحرب الطاحنة كانت تشبه ثغر محبوبته حين تبتسم، وفمها حين تضحك، وهنا نستطيع أن نستنتج أمرين من هذا التفكير وذلك التعبير؛ الأول: كثرة الشوق وشدَّة الحب اللذان كانا يسيطران على قلب شاعرنا المتألق، فمن كثرة تفكيره بـ(عبلة) كان كلُّ شيءٍ يذكِّره بها، حتى مشهد هذه السيوف في هذه المعركة الضارية لم يذكره إلا بها. الثاني: الإلماح إلى فرط شجاعته وشدة إقدامه وجرأته، فحيث نرى الفرسان يصارعون الموت ويفكرون بكيفية انتهاء المعركة والخروج منها بانتصار ونجاة، نجد خيال (عنترة) يسبح في عالمٍ آخر، في عالم الحب والشوق، دلالةً على أنَّ المعركة وأحداثها من آخر اهتماماته؛ لأنه بطلٌ واثق من الانتصار، فلماذا يشغل نفسه بها؟

ويعود بنا شاعرنا البطل إلى الفخر مرة أخرى، فيكشف لنا أنه حين يبدأ القتال وتُفتتح المعركة فإنه يهجُم بكل ثقةٍ وإقدامٍ ودون انتظار حضٍّ أو حثٍّ أو تشجيعٍ من أحد في الوقت الذي كان بقية الأبطال ينتظرون مثل هذه الأشياء لبدء الهجوم، ويخبرنا بعد هذا عمَّا كان يسمعه في أثناء ذلك، لقد كان يصغي إلى هؤلاء الفرسان وهم يصرخون باسمه ويستنجدون بشجاعته في الوقت الذي كانت الرماح بكثرة تُصوَّب نحو صدر فرسه الأدهم ومُقدِّمة خيله الأسود وكأنها حبال الدلاء حين تُرمى في البئر حين السقاء، وهي صورةٌ بديعةٌ وتشبيهٌ رائعٌ لم يكن غريبا أن يصدر عن شاعر كبير بحجم (عنترة بن شداد).

ومع كلِّ هذه الرماح التي كانت تُصوَّب تجاه صدر خيله وكأنه هو الوحيد الذي يقاتل إلا أنَّ (عنترة) لم يتوقَّف أو يتردَّد، فقد كان يرمي بنحر خيله على الأعداء دون أن يأبه لكثرة الرماح المصوَّبة نحوه، حتى وصل الأمر إلى أن صار صدر هذا الخيل كأنه قميصٌ قد تسربل بالدماء وتلطَّخ بها، فتحوَّل لونه من الأسود إلى الأحمر، وفي هذا ليس كشفاً عن شجاعة (عنترة) فحسب، بل عن شجاعة خيله كذلك، وهو الذي تعوَّد معه أن يخوض مثل هذه المواقف مع صاحبه بكلِّ جرأةٍ وإقدام.

وما دام الحديث عن الخيل فقد فضَّل (عنترة) أن يخبرنا عن موقفه بشكلٍ أكثر وضوحا، لقد كان هذا الخيل يحاول أن يتجنَّب هذه الرماح قدر الإمكان، فكان لرشاقته وذكائه ينحرف عنها يميناً وشمالا، بيد أنَّ هذه الرماح كانت كثيرةً جداً مما جعلتْ نحره ينزف دما؛ ولذلك فشاعرنا المتألق يتخيَّل هذا الخيل وهو يشتكي من قوة هذه الرماح، وشدَّة ما نزف من الدماء، لكنه لم يكن يقوى على الكلام؛ ولهذا كانت شكواه بالدمعة والحمحمة، وإلا لو كان يستطيع المحاورة لاشتكى بلسانٍ فصيح، ولو كان يقدر على الكلام لبثَّ همَّه وشكواه إلى فارسه من كثرة ما أصابه من هذه الرماح القاتلة.

ويختتم (عنترة) المشهد من هذا النصِّ المثير ببيتٍ رائعٍ وجميلٍ يؤكد فيه جرأته وإقدامه، ويُعزِّز فيه شجاعته وفروسيته، فهذا الذي يلقاه في المعركة ليس بهيِّن، وذلك الذي يلقاه خيله في الحرب غير قليل، لكن شيئاً واحداً يجعله يتحمَّل كلَّ هذه الأمور، ويحتمل كلَّ هذه المشاق، أتعلمون ما هو؟ إنه تعويلُ أصحابِهِ عليه وحثُّهم إياه على الإقدام ليدافع عنهم، إنه اعتماد الأبطال عليه في جلب النصر إلى الجيش في هذه المعركة المضطربة، هذه الأمور هي التي شفت نفسه وخفَّفت عنه المصاعب والأهوال التي كان يلقاها في غمار هذه الحرب الضروس.

هذا هو (عنترة بن شداد) الذي ما يزال يضرب به المثل في الشجاعة والإقدام، وهذا هو فارسنا العربي الذي جسَّد الفروسية والحماسة في أروع مشاهدها.. وهذا هو شاعرنا المتألق الذي رسم أجمل لوحات الحبِّ والذكرى والحنين على صفحات أدبنا العربي الخالد.. وهذه هي ألفاظه التي كان تتفوق بسهولتها ووضوحها وجمالها على كثيرٍ من شعراء الجاهلي الذي يتميز شعراؤه عادة بغرابة اللفظة وخشونتها ووحشيتها..

وهذا هو أسلوبه الرائع السلس الذي أتحفنا به خلال هذا النص العبقري.. وهذه هي صوره الفريدة التي أدهشنا بها.. فمن تشبيه السيوف اللامعة بثغر (عبلة) المتبسِّم.. إلى تشبيه كثرة تصويب الرماح إلى صدر خيله بحبال الدلاء حين تُرمى في البئر حين السقاء .. وهذه هي المثل العليا التي جسَّدها في معانيه من إقدامٍ وشجاعةٍ وشهامةٍ ونجدةٍ وعفَّة نفس.. وهذه هي شخصيته التي صوَّرتها هذه الأبيات الرائعة،، فهو فارسٌ بطل .. وهو كريم الخلق .. وهو محبٌّ عاشق .. ثم هو بعد ذلك شاعرٌ مبدع ..

أفلا تستحق هذه الأحرف .. وتلك الأبيات .. أن ينحني لها التاريخ احتراما وإجلالا؟ وأن يخطَّها بمداد من ذهب على صفحاته؟ وأن يجعلها ضمن أشهر المعلقات في تاريخ أدبنا العربي؟ بلى والله ..

- الرياض Omar1401@gmail.com